تمر على المرء منا في حياته مواقف وأحداث تجعلنا نعود بالذاكرة إلى آيات القرآن الكريم التي كثيرا ما نتلوها ونسمعها دون أن نتدبر معانيها، وبخاصة تلك الآيات التي ترتبط بالموت، الموت الذي هو الحقيقة الوحيدة التي لم يشكك فيها أحد، لقد شك الكثيرون في وجود الخالق سبحانه وتعالى، لكنى لم أر أو أسمع بمن شك في وجود الموت أو وقوعه. حكى لي صديق عزيز، كان بجوار زوجته لعدة أسابيع، عانت فيها من مرض جعلها تفقد الوعي والإدراك لنحو شهر من الزمان، كان يجلس إلى جوارها هو وأولاده، لا يعرفون حقيقة ما تشعر به، يكلمونها فلا يسمعون إجابة وهى على قيد الحياة، ويقول: كنا نجتمع إلى جوارها ليلا ونهارا، هي في عالم ونحن في عالم آخر، نفس يتردد في صدرها، وهى في ملكوت لا يعلمه إلا الله الخالق، هل تشعر بنا؟! وبم تحس؟! نحن قريبون منها وبعيدون في نفس الوقت، قريبون بأجسادنا وحسب، تذكرت قول الحق جل وعلا: «ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد»، وحبل الوريد كما يقول القرطبي في تفسيره هو حبل العاتق، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه، وهما وريدان عن يمين وشمال، وقال الحسن: الوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب، وهذا تمثيل للقرب، أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه. وأضاف الصديق العزيز في رسالته: لقد أدركت حين تدبرت معنى الآية الكريمة، وفهمت معنى حبل الوريد، مدى قرب الله تعالى لعبده في مثل تلك اللحظات، وكيف أن قربنا لا يجدي ولا يفيد، فلا نعلم شيئا مما يدور داخل هذا الجسد المسجى أمامنا، كما أننا عاجزون، لا نملك إزاءه شيئا، فلا نستطيع تخفيف آلامه، كما أننا نعجز تماما عن رد الروح إليه حين تذهب إلى بارئها، وهنا تذكرت قوله تعالى: «فلولا إذا بلغت الحلقوم، وأنتم حينئذ تنظرون، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا أن كنتم غير مدينين، ترجعونها إن كنتم صادقين». إنها صورة اللحظات الأخيرة التي شاهدت شريكة حياتي وهى تحتضر، أنظر إليها ومعي ابنتي، ونحن نلامسها ولا تفصل بيننا فواصل، لكن الحقيقة أنها في عالم ونحن في عالم آخر، هي في عالم لا يعرفه إلا من خلقه وخلقها، ولا يمكن لمخلوق على وجه الأرض، أن يعيد إليها الحياة، إلا من خلق الموت والحياة. هذه بعض سطور مهاتفة الصديق، تتجلى فيها معاني كثير من الآيات التي نتلوها بألسنتنا، ونسمعها بآذاننا، وتعجز عن فهم معانيها العقول، حتى إذا ما التقينا بالمواقف، فهمنا المراد، أو بعض المراد. أهم ما لفت انتباهي في رسالة صديقي الحزينة، هو مدى القرب الإلهي من عبده، حيا أو ميتا، وهو ما يغيب عن الكثيرين منا، إذ لا يفكر البعض منا ونحن في تمام الصحة والعافية، في مراقبة الله لنا في أفعالنا، سرا وعلانية، وهو ما يدفعنا إلى الانزلاق إلى المعاصي، كما لا يفكر البعض منا في لحظات ما قبل الموت، وما بعد الموت. أنا على يقين أن المهاتفة التي ذكرت بعض ما جاء فيها، ستجعل الكثيرين كما جعلتني أنا شخصيا أفكر كثيرا في الحياة، وفى الموت، وفيما بعد الموت، فالله سبحانه وتعالى أقرب إلى العبد منا من حبل الوريد، فهل نحسب لذلك حسابه؟!.