هناك كثيرون في أيامنا هذه يحرصون على التقليل من كمية ما يتناولونه من طعام، هم يفعلون ذلك لأسباب صحية بحتة تجنبا لزيادة مكروهة في الوزن، أو وقاية من الإصابة بأمراض قد تجلبها لهم كثرة الطعام. وقليل منهم من يفعلونه اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه». وقد يظن البعض أن ما يفعله أولئك الحريصون على مراقبة ما يتناولونه من كميات الأطعمة وأنواعها سلوكا طارئا جاء مع تطور العلوم الصحية في العصر الحديث، لكنه في الحقيقة سلوك قديم ظل الأطباء والزهاد ينصحون به منذ زمن بعيد. ومن يقرأ في التراث العربي يلحظ كيف أن العرب كانوا ميالين إلى الاقتصاد في تناول الطعام، يرون الحمية طريقا للصحة والعافية، وحتى بعد أن اغتنوا وكثر الطعام على موائدهم وتعددت أنواعه بين أيديهم، ظلوا على كراهيتهم للإسراف في تناول الأطعمة. رغم أن العرب اشتهروا بفرط الكرم، إلا أنهم كانوا يستهجنون الشرهين الأكولين ومن أقوالهم في ذلك: (لا خير في الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل) (الفضل هنا بمعنى الزيادة)، وكانوا يعدون من يملأ بطنه بالطعام أحمق، وقد اشتهر بينهم مثل يربط بين كثرة الأكل والغباء فكانوا يقولون: (البطنة تذهب الفطنة)، يقول أحدهم في هجاء أكول يرى أنه فقد لياقته الذهنية بسبب الشراهة في الأكل: أتانا وما ساواه سحبان وائل،، بيانا وعلما بالذي هو قائل فما زال عنه اللقم حتى كأنه،، من العيّ لما أن تكلم باقل ولشدة استهجان العرب للأكولين الذين ينغمسون في التقام الطعام وبلعه، أغرموا بالسخرية منهم وانشغلوا بنسج الفكاهات والطرائف حولهم، فرووا أن أبا الأسود الدؤلي رأى رجلا يلقم لقما منكرا، فقال له: كيف اسمك؟ قال: لقمان، قال: صدق الذي سماك. ومن طريف ما يروى من الفكاهات حول حب الأكل والشراهة فيه، أن شيخا وحدثا اسمه جعفر من الأعراب، اصطحبا في سفر وكان لهما قرص في كل يوم وكان الشيخ مخلع الأضراس، فصار الحدث يبطش بالقرص ثم يقعد يشكو العشق، والشيخ يتضور جوعا، فقال الشيخ فيه: لقد رابني من جعفر أن جعفرا،،، يبطش بقرصي ثم يبكي على جمل فقلت له لو مسّك الحب لم تبت،،، بطينا، ونسّاك الهوى شدة الأكل أما الأكولون فإنهم كانوا لا يرون غضاضة ولا عيبا في إقبالهم على الطعام، فهم يحتجون بقول الحسن البصري: «ليس في الطعام سرف» لقوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}، وكان أكثر ما يكرهون ذكر (الحمية)، فيقبلون على الأكل مرددين قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}.