«غاب عن عالمها أمدا بعيدا؛ تراه ضاحكا مستبشرا.. تحادث طيور السماء: خذيني إليه.. تعود إليها بأشلاء ممزقة.. تنثرها نحو السماء وتزغرد». أن تكتب قصة قصيرة جدا مكتملة الشروط، تتمحور حول حدث واحد فهذا مقدور عليه. ولكن أن تكتب رواية في سطرين فهذا ميدان سباق بين الكتاب لم يفز فيه إلا القلة. في روايتها القصيرة جدا «قربان» تنجح مريم الحسن في تسطير ملحمة الشهادة مختزلة في مشاهد أربعة «غياب الحبيب توقع مصيره السعيد البحث عنه موقف الحبيبة من استشهاده». مشاهد من لحم ودم؛ أبطالها منكرون عن عمد لأن الشهادة مقدسة بحد ذاتها في كل زمان ومكان، طالما بقي الإنسان إنسانا ينشد الحرية ويقدم روحه قربانا على مذبحها حبا بالغالي النفيس وطنا كان أو معتقدا. تصوير مدهش للمشاهد الأربعة تكاتف السرد والوصف والحوار في إخراجه : بدأ السرد بالماضي «غاب» تعبيرا عن أمده البعيد ثم انتقل إلى مسرح الحدث الحاضر ليسجل لنا تفاؤل الحبيبة بمصير الحبيب السعيد في غيابه «تراه ضاحكا مستبشرا» مصير ينقل المتلقي إلى عمق القرآن الكريم في تناص جميل مع قوله تعالى «فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون...» في هذا المشهد بالذات دمجت الكاتبة السرد بالوصف من خلال وصف حال الشهيد ضاحكا مستبشرا. وينطلق السرد نحو المشهد الثالث بهدوء رصين يتسقط الخبر عن سبب الغياب موكلا المهمة إلى طيور السماء مندمجا بالحوار هذه المرة «خذيني إليه» حوار من طرف واحد مع طير يتقن الفعل ولا يعبأ بالكلام؛ ينطلق ملبيا أمر الحبيبة ويأتي بالجواب على هيئة أشلاء ممزقة. وينقلنا السرد نحو الخاتمة فنرى الحبيبة تتلقف الجواب وتنثر الأشلاء برفق حالم وادع وكأنها بتلات وردة، جاعلة الريح كفنا لها دونما شق للجيوب ودونما صراخ أو عويل. هكذا بصبر الواثق تزغرد وتعلن عرس الشهادة عرسها مع حبيب حي يرزق عند ربه. تكثيف مدروس ومفارقة هادئة بين الحزن والفرح وقفلة تدهش المتلقي بما لا يتوقع.. بزغردة مستمرة نسمع صداها يتجاوب في كل البلدان طالما أنها تحاكي الإنسان كل إنسان يعشق الحرية و التضحية ويبذل الروح رخيصة في سبيل الله و الوطن والكرامة.. تقبل الله قربان مريم الحسن وجزاها عنا أجر ما أمتعت.