استشراف المستقبل يعد أحد أهم استراتيجيات التخطيط والبناء في كافة المجالات. ويتم التعامل مع المستقبل علميا وإحصائيا من خلال دراسات دقيقة وناجعة. ولكن في مجال الإنسانيات يختلف الوضع نوعا ما.. فالاستشراف ضرب من التنبؤ القائم على أسس علمية وقوانين محددة، لكن في حالة الإنسان فردا كان أو مجتمعا فإن العملية تصبح فضفاضة.. فالتنبؤ بما سيكون عليه مستقبل فرد ما أو مجتمع ما ليس أمرا ميسورا، وكثيرا ما يحدث ما يغير مسار الخطط والمشاريع المتعلقة بهذه المجالات. الإنسان بطبعه متقلب ومتغير وقد ينحرف عن مساره إلى مسار آخر بين عشية وضحاها. وهذا ينطبق أيضا على المجتمعات وإن بدرجة أبطأ. ومن أهم العوامل التي تجعل المرء عرضة للتقلب هي أنه كائن مفكر وحر. والفكر بوصفه موجها للسلوك قابل للتغير.. وهذا واضح لكل امرئ منا؛ فقد يحدث أن تغير أفكارك حول موضوع معين مما يجعل سلوكك بالتالي يتغير. وقد يعتنق أحد الأفراد فكرا تنويريا بناء أو قد يتبنى فكرا هداما. ويكفي أن يختلي امرؤ بنفسه مع كتاب من الكتب لكي يخرج إلى الناس بأفكار جديدة وربما ينعكس ذلك على حياته جذريا. والشباب الذين وقعوا ضحية للإرهاب تمت تعبئة عقولهم بأفكار مؤيدة للإرهاب لكي يسهل التلاعب بهم. إن تغيير الأفكار طبيعة عقلية ولا عيب فيها، لكنها قد تتخذ مسارا خطيرا إذا كانت الأفكار غير إنسانية وغير عقلانية (أي أفكار آيديولوجية تجعل الإنسان وسيلة لا غاية)؛ من ثم فلا غرابة أن تضحي الآيديولوجية الإرهابية بأفرادها في عمليات تفجير انتحارية، فهي لا تهتم بهم فهم - حسب مخططها - مجرد وسائل. استشراف المستقبل فيما يتعلق بالأفراد والمجتمعات إذن أمر محفوف بالمخاطر بل والفشل.. لكن إن كانت معرفة المستقبل صعبة فإن الاستعداد له ممكن. نحن لا نعرف على وجه الدقة متى سينتهي النفط (فهو طاقة ناضبة)، ولا نعرف ما إذا كنا محظوظين في اكتشاف طاقة بديلة تكون مصدرا للثروة الوطنية.. وهذا الجهل بالمستقبل كفيل بأن يجعلنا نخاف على مصيرنا ومصير الأجيال القادمة، وبالتالي بأن يدفعنا للاستعداد لمواجهة كل الاحتمالات. مواجهة المستقبل يجب أن تتركز على أسوأ الاحتمالات؛ كنضوب النفط أو سيادة البطالة أو الفقر أو انتشار الحروب أو .. إلخ. فما العمل المضمون الذي نستطيع من خلاله مقاومة تلك الاحتمالات السيئة؟ هل هو النفط؟ أو المال؟ أو التراث؟ بالتأكيد لا. هل هو الدبلوماسية وتمتين العلاقات السياسية؟ بالتأكيد لا، فالعلاقات الدبلوماسية متغيرة باستمرار وتتحدد بناء على المصالح المتبادلة، فإذا لم يعد بلد من البلدان قادرا على العطاء والإنتاج فإنه سيخسر كل العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها. الرهان الوحيد سيكون «الإنسان». إن تربية الإنسان والمجتمع تربية عقلانية وعلمية وعملية هو أهم سلاح لمقاومة أي احتمال سيئ في المستقبل القريب والبعيد. الاهتمام بالإنسان كان هو ولا يزال أساس النهضة الأوروبية والنهضة الأمريكية واليابانية والكورية. والإنسان ليس مجرد عقل بل هو أيضا روح. ولذا ينبغي -تربويا- تغذية كل الجوانب في الإنسان. ولكن الشيء الوحيد الذي إذا فقده الإنسان يفقد معه كل فاعلية وجدارة هو الفردانية والحرية. وأي نظام تربوي يهدر هذا البعد فسيكون محكوما عليه بالفشل. إن كل إنسان كينونة متفردة ومتميزة وله الحق في التفرد وله الحق في التعبير عن نفسه بالطريقة التي يريد وله الحق في أن يكون ذا عقل ناضج فلا يمنع من أي من العلوم أو المعارف المتاحة. باختصار، يجب أن يكون الإنسان هو غاية كل نشاط سياسي واقتصادي واجتماعي، ولذا فإن بعض الأنماط الاجتماعية التقليدية السائدة في مجتمعنا لم تعد نافعة أبدا في التربية المستقبلية. لأن هذه الأنماط تهمش دور الفرد على حساب الأمة أو القبيلة أو العشيرة أو العادات والتقاليد.