الزمان 1998م، المكان بيروت التي لم تكن قد تعافت بما فيه الكفاية من وجع الحرب الأهلية اللبنانية، أما الحدث فهو معرض الكتاب الدولي. كان المعرض في شهر ديسمبر «كانون الأول» حيث جاء المعرض خلال هذه الفترة من السنة المعروفة ببردها القارس وأمطارها الشتوية ليبعث الدفء في قلب وروح المدينة الأكثر ألقا ثقافيا في الشرق. عند مدخل المعرض كانت الدور الشهيرة تقف بشموخ لتزين المعرض «فلا تستطيع إلا أن تقف باحترام لدور مثل النهار والريس والساقي وغيرها لتتعلم منها فن النشر والطباعة، فقد تميزت كل دار عن الأخرى بميزة تتفرد بها. وكانت صالة فندق الهوليدي إن هي المكان المقصود وعندما تقول فندق الهوليدي ان فإنك تتحدث عن علامة فارقة في حياة العاصمة اللبنانية بيروت وعذاباتها، بكونه كان الفندق الذي عذب الناس فقد كان هذا الفندق يتربع عليه القناصون أيام الحرب اللبنانية، رأينا في الطريق إلى المعرض آثار الرصاص على جدران البيوت والمنشآت حتى يدعوك هذا إلى البحث في التاريخ والسياسة، وقد أيقنت حينها أن التاريخ الحقيقي لا يكتب على متون الصفحات ولكنه يكتب على هوامشها، فقد كانت آثار الرصاص بعيدة عن النوافذ إلى الدرجة التي تجعلك تعتقد أن الرماة أحبوا التسلية فحسب، وقد كانت القاعة تحتضن المعرض أول مرة فلربما توجس الناس من ذكراها التي ارتبطت بمن فقدوهم منذ سنين، ولم يزر المعرض كثير منهم، ففي اليوم الأول وبينما أنا افتح صناديق الكتب التي شحنتها فقد وصلتني بطريق الخطأ كرتونة وليس عليها أي عنوان وقد كانت متهالكة الجوانب والحواف إلى الدرجة التي بدأت تخرج منها الكتب فقلت في قلبي أن أصلحها وأعرف من خلال كتبها لمن تعود باعتبارها لا تحمل أي عنوان وفتحتها وإذ بكيس سعة 10 كيلو ولا أعرف ما بداخله ولم يخطر ببالي إلا أمرا واحدا أن تكون محتوياته مادة مخدرة تركت المكان الذي تغطيه الكاميرات من كل جانب فأخبرت شركة الشحن التي كشفت على الكيس المذكور عبر مندوبها وكان 10 كيلو رز من النوع الفاخر مشحونة مع الكتب المرتجعة من معرض الكويت مع مجموعة من الكتب المختلطة التي لا تظهر تابعية الصندوق فقد كان الرز الفاخر من نصيبي، واستعادت الكرتونة شركة الشحن وفي يومه الثاني عندما خرجنا في الثامنة مساء وكانت السماء ترسل كل ما لديها من مطر حيث ظل متواصلا طوال الليل وعدنا في اليوم التالي صباحا وكان الطقس هادئا فقد دخلت المعرض ووصلت الى جناحي وكانت المفاجأة أنني لم أجد كتابا على رف فكانت الأرفف خالية تماما صرت أنظر خلفي لم أصدق الرؤية والمشهد وزميلي كذلك وقلت في قلبي .. بالتأكيد الموضوع ... كميرا خفيه ... كانت الكاميرات فعلا ترصدني وظهرت على ما يبدو أمام الإدارة أنني وصلت إلى جناحي وبعد لحظات حضر الدكتور عدنان حمود مدير المعرض وبلطفه المعهود قال: يبدو أن هناك ثغرة في البناء تسببت بتسرب المياه إلى جناحك فأتلفت ما أتلفت من الكتب نعتذر منك على هذا الذي حصل فقد نقلنا المتبقي من الكتب إلى جناح آخر أرجو أن تفضل لتتعرف عليه، وطلبنا من شركة التأمين الحضور للتعويض عليك ودفع قيمة الكتب التالفة قلت له: شكرا دكتور كلك لطف ومحبة، وفعلا ذهبنا معا إلى ممر آخر ورأيت الكتب وقد رصفت على الرفوف على عجل وأما الكتب التالفة فقد كانت مرمية على الأرض، ولما شاع الخبر وانتشر بين معشر الناشرين حضر الكثير منهم للتضامن والتعاطف وكان من بين من حضروا ناشر لم يشترك بالمعرض ولكنه أعطاني توكيلا لتمثيله بالمعرض فقد حضر معتقدا أن كتبه بيعت للقضاء والقدر ولكني وأنا أستمع لكلام الدكتور عدنان وإشاراته أيقنت أن البلل كان من زاوية محددة غير تلك الزاوية التي ركنت كتبه فيها فما زالت آثار التسرب واضحة ولما علمت أن صديقي سلمت كتبه ولم يتضرر أي منها قلت له: لا أستطيع أن أقول لحسن الحظ أو حتى للأسف على ما اعتقد وحضرت شركة التأمين في اليوم نفسه وعاينت الكتب التالفة ومكان التسرب وكتبت الشركة تقريرا بالواقعة وقد طلبوا خصما إضافيا على الكتب التي أتلفت ومنحتهم فعلا خصما إضافيا، ذلك الذي استطيع، لأنها شركة محترمة ودفعوا المبلغ وغادروا. عزلت الكتب التي لم تتضرر لحد ما، واستصلحت ربعها تقريبا وأهديتها لأفراد ومؤسسات كانت قد سجلت أسماء هذه الكتب في اليوم الأول لتشتريها فيما بعد، وقد اشترى بعض الناس بعضا من هذه الكتب رغم أنه تشرب ما يكفي من الماء فلقد كان المخطوط القرمزي حينها لأنطونيو غالا الكتاب الذي لا يأبه الناس بحاله ولو كان مبللا ففكرت وقتها بالكتاب المسموع الذي لا تؤذيه المياه فاشتريت بعضا من هذه الكتب المسموعة التي أصدرها المجمع الثقافي والموجهة أصلا للمكفوفين وهي تجربة فريدة حيث كان الاهتمام بها من المبصرين أكثر منه عند المكفوفين كتجربة جديدة.