في كل الدول العربية يعتبر معرض الكتاب فرصة ذهبية نادرة للقاء وتبادل الأفكار والكتب بين المؤلفين والمهتمين والقراء، وفي عاصمة عربية عريقة (فضلت عدم ذكر اسمها هنا)، يصادف أن جل زبائن معرض الكتاب من الشباب والشابات الذين أنهكتهم مصاريف الجامعة. وحدثت لي بعد يوم من افتتاح المعرض هذه المفارقة. يدخل شاب وشابة إلى الجناح، وكانت هي المرة الثالثة التي يجولان فيها جناحي خلال ساعات معدودة، فالشاب الذي يلبس سترة فضفاضة سوداء قاتمة يدير ظهره، فيما تتولى الشابة النظر إلي ومتابعتي وإشغالي إن اقتضى الأمر، وفي كل مرة يكون القصد البحث عن الجزء الثاني من كتاب «في ظل لينين» الذي أقفلت عليه في صندوق محكم قصدا. ذلك الكتاب الذي استطاعوا أن يمتلكوا من جزئه الأول ثلاث نسخ بغير حق، وقد كنت أعلم بأنهما يسرقان، فالقصة لا تحتاج إلى قدر كبير من النباهة والشطارة والذكاء، فعلى مدى 10 سنين أصبحنا نعرف مزاج وعادات القراء في الوطن العربي وطباعهم وإمكاناتهم ونفتقدهم ونعرف بيوتهم وأحوالهم ونوافذ بيوتهم وعدد أولادهم، ولأنني لم أمارس عليهما الرقابة المشددة ولم أزجرهما استطاعا أن يفوزا بما فازا به من كتب لأسباب يأتي ذكرها تاليا، فقد بقي عليهما الآن أن يحصلا على الجزء الثاني لكي يستطيعا قراءته أو تصريفه، ولكي تكتمل الصورة وتنجز المهمة بيسر تقف الشابة بجوار الكتاب «امتحان السلطة». وتسأل: مافماش الجزء الثاني من هذا الكتاب؟ وأرد عليها: موجود ولكن والله لن أعرضه ولو رحتم وعدتم عشرين مرة. وتقول مبتسمة: علاااااش، وأقول: لئلا تأخذونه كما أخذتم جزءه الأول. فتقول لي: لا لم نأخذ شيئا.. كنت قبلها بلحظات قد عدت لتوي من جناح صديقي الذي كان يحدثني وهو يعاني ويشتكي بألم في كل عام من فتوى تحليل سرقة المعرفة في ثمانينات القرن الماضي، فقال لي بألم وغضب: ثلاثة كتب أبيع نسخة من كل واحد وأفقد نسخة من كل واحد، فيما على الناصية الأخرى، وبينما هو يحدثني، يتفاخر ناشر ويحدث البقية من الناشرين وهم يضحكون عن ذلك الشاب الذي يدخل منذ ثلاثة أيام إلى جناحه ويمسك بكتاب ويدخل بالأمس ودخل اليوم، ويبدو أنه قسمه لثلاثة أيام ليقرأه، وذلك لضيق ذات يده وارتفاع سعره، ففي هذا اليوم وبينما هو منهمك بالقراءة في داخل الجناح دخل عليه الناشر بغتة وبشكل لم يترك له فرصة، فقال له: أنت يا صديقي تدخل الجناح منذ ثلاثة أيام وتمسك بالكتاب نفسه وقد شارفت على إنهائه، ونحن في بلاد الشام لدينا عادة أن الزبون الأول من المفروض أن يشتري لكي نستفتح، وهذا الكتاب ب20 ويجب عليك أن تشتريه، فجفل الرجل وارتبك واحمر وجهه وصار يقول بلهجة رقيقة: نعم نعم أشتريه ولكن ليس ب20، وأعود وأقول له بل ب20، ويخطر في بال الرجل الاختراع الذي جاء من الحاجة فيقول لي: اسمع خذ هذه ال5 وخلي الكتاب عندك واعتبرها أجرة استعماله لثلاثة أيام فأقول له: هات أخذتها، وهرب الرجل، وأعتقد أنه لن يكرر هذا مرة أخرى ويشعر الناشر بالنصر فكنت أتسامح مع قناعتي وثقتي بأنهم يسرقون ومعرفتي بالكتب التي يسرقونها امتعاضا وخجلا من سلوكات بعض الناشرين الذي سببوا هجران المعارض وطقوسها وشهوتها وبريقها... فقلت لها: هل تراهنين على ما تحتويه حقيبتك من كتب مسروقة؟، قالت: نعم، قلت لها: علام الرهن، قالت: ما تشاء، قلت: إن عرفت ما في الحقيبة تعملين في الجناح ما تبقى من مدة بلا أجر، وإن لم أحزرها تأخذين من كل كتاب معروض نسخة مجانا، وفي النهاية لم ترغب الشابة بالرهن، وقالت أخيرا إن كان كلامي غير صحيح، افتحي حقيبتك، وبين المزح والجد فتحت الحقيبة التي ظهر منها أصلا كتاب الفتنة وكتاب الكوفة، عندها بكت الشابة وقالت بلهجة نادمة: تعقد في هذا المكان الكثير من معارض اللباس والمكياج وأدوات الزينة والمأكولات ولا أزورها مطلقا، ولكني لا أستطيع أن أتغيب ولا أزور معرض الكتاب، علما أنني لا أملك في جيبي إلا ما يكفني أجرة الحافلة التي تنقلني للعودة للمنزل، وأعترض على الأسلوب برغم الظرف القاسي ونأتي على ذكر الفتوى فتعلمني أنها لم تتأثر بالفتوى فقط، ولكنها تعمل بموجب قاعدة: انهبوا ما نهب منكم.. أضحك على التعبير وأقول لها بعد طول تعجب: ... يا حيف عليك.. يعني في النهاية.. طلعت أنا سميح العوام عدوك الطبقي. أدخل مع المرأة في حديث صراع الطبقات والأخلاق وينتهي الحديث بفوزي بالرهان وتقبل بالعمل بالجناح لما تبقى من المعرض مقابل أجر مثل مثيلاتها وأطلب منها الطلب الأول: عممي على زملائك أن لا يدخلوا إلى هذا الممر بنفس القصد الذي كانوا يدخلون عليه، فتخرج لمدة وجيزة من الوقت وتبلغ الرسالة إلى أصحابها، وبعد حين أتبادل الابتسامات مع نفس الفريق الذي كان يستهدف الممر الذي كنت فيه مع بقية من دور نشر لبنانية ومصرية وسورية مستهدفة من القارئ، فقد كنا أحيانا نستقبل طلبات شراء من مكتبة من مكتبات وتختفي الطلبات ولا يعود أصحابها، ولكننا كنا نكتشف أحيانا أن الكتب المطلوبة بالطلبية قد سرقت واختفت تماما من الجناح، لنعرف بعدها من خلال المرأة كل أعضاء المجموعة التي كانت تمارس هذا النشاط؛ لأنهم اختلفوا فيما بينهم على الغنائم وصارت زياراتهم في السنوات التالية إلى المعرض مكشوفة وباهتة. !!Article.extended.picture_caption!!