لكونه الصبي الأصغر، كان والدي الأكثر وفاء بين الأشقاء الأربعة وكان أيضا الأقل احتراما من قبل الآخرين. تولى الأعمال الأصعب، كان الأكثر سخاء على أبناء وبنات أخته وإخوته، رغم ذلك لم تكن تلك الأمور ملحوظة بشكل كامل، وقد نالت القليل من التقدير، تتذكر أمي أنه في يوم زفافها، في الحفل الذي يتلو مراسم العرس، أحد أشقائه قام في الواقع بمراودتها عن نفسها، وحتى لو أنه تعذر لما حدث بالطيش، فذاك أمر آخر، لكن الواقع الصرف لمضايقتها بذاك الشكل يعطي فكرة مقربة لكيف كان يشعر هو تجاه والدين، أنت لا تقوم بفعلِ من ذاك النوع في يوم زفاف رجل، حتى لو كان شقيقك. جدتي تتوسط العشيرة، ماما يوكوم اليهودية، أم تقف عندها كل الأمهات، ضارية، عنيدة، الزعيمة، كان معروفا أن الإخلاص لها هو ما جعل الإخوة مقربين، وحتى و هم رجال ناضجون، بزوجات و أبناء أنجبوهم، كانوا بوفاء يطرقون منزلها كل ليلة جمعة للعشاء -من دون أسرهم. كانت هذه هي العلاقة ذات الأهمية، و لها الغلبة على ما عداها. لا تزال هناك صورة هزلية بعض الشيء عنها: أربعة رجال ضخام، يرتفع الواحد منهم لأكثر من ستة أقدام، ينتظرون أوامر امرأة مسنة، أقصر منهم بقدم و أكثر. في إحدى المرات القليلة التي قدموا فيها برفقة زوجاتهم، حدث أن أحد الجيران زار البيت وتفاجأ بوجود هذ التجمع العامر، هل هذه عائلتك، سيدة أوستر؟ سألها، بلى، أجابت، بابتسامة اعتزاز واسعة، هذا __. و هذا__. و هذا__. و هذا سام. تراجع الجار قليلا من الدهشة، وهذه السيدات الجميلات، سألها، من هن؟. أوه، أجابت بتلويحة عفوية من يدها، تلك زوجة__. وتلك زوجة__. وتلك زوجة__. وتلك زوجة سام. لم تكن الصورة التي رسمت لها في صحيفة كينوشا دقيقة على الإطلاق، عاشت لأجل أطفالها. (المحامي بيكر: أين يمكن لامرأة برفقة خمسة أطفال كهؤلاء أن تذهب؟ إنها متشبثة بهم وتستطيع المحكمة رؤية أنهم متشبثون بها، وفي نفس الوقت، كانت مستبدة، تصاب بنوبات من الصراخ والهستيريا عندما تغضب، تهوي على رؤوس أبنائها بالمكنسة، كانت تطلب الطاعة، و قد حصلت عليها. مرة، عندما وفر أبي مبلغا ضخما مجموعه عشرة أو عشرين دولارا من توزيعه للصحف كي يشتري لنفسه دراجة جديدة، دلفت أمه لغرفته، كسرت حصالته التي على شكل خنزير، وأخذت المال منه بلا أدنى اعتذار، احتاجت المال لدفع بعض الفواتير، ولم يكن لأبي أي ملاذ، لا وسيلة ليبعث بشكواه. حينما روى لي هذه القصة، لم يكن قصده أن يريني كيف أن أمه قد ظلمته، ولكن ليبين أن مصلحة العائلة كانت دائما أهم من المصلحة الذاتية لأي فرد منها ربما كان مستاءً، لكنه لم يتشك. كان ذاك حكما نابعا من هواه. بالنسبة لطفل، ما حدث يعني أن السماء قد تهوي على رأسه في أية لحظة، أنه لن يستطيع أن يثق بأي شيء، لذلك تعلم ألا يثق بأحد أبدا ولا حتى نفسه. سيأتي أحد دوما ليثبت أن ما آمن به كان خاطئا، أنه لا يعول عليه في أي أمر. تعلم ألا يرغب في أي شيء بشدة. عاش أبي مع جدتي حتى بلغ عمرا أكبر مني الآن، كان آخر واحد ينصرف معتمدا على نفسه، الواحد الذي ترك في الخلف ليعتني بها، سيكون خطأ القول، مع ذلك، أنه كان ابن أمه، كان مستقلا جدا، تم تلقينه جيدا بسبل الرجولة عن طريق إخوته، كان طيبا معها، بارا بها ومجيبا لرغباتها، ولكن لا يخلو ذلك من الإبقاء على مسافة معينة، حتى في الدعابة. بعد زواجه، هاتفته كثيرا، تزن عليه في هذا الأمر وذاك، و يكون من أبي أن يدني سماعة الهاتف ويضعها على الطاولة، يتمشى لعدة دقائق، ثم يعود للهاتف، يرفع السماعة، و يقول شيئا لا معنى له لتفهم أنه لا يزال هناك (أها، أوه، أهااا، إمممممم، هذا صحيح)، ثم يتجول مرة أخرى، ذهابا وإيابا، إلى أن تخرج كل ما بنفسها من كلام. الجانب الهزلي من انسداده. وأحيانا جرى ذلك بشكلٍ خدمه جيدا. أتذكر مخلوقا ضئيلا ومتغضنا يجلس في الردهة الأمامية لمنزل عائلتين في ويكوايهك، نيوارك، يقرأ صحيفة «الأمام اليهودية اليومية». بالرغم من علمي بأن علي فعل ذلك متى ما رأيتها، فكرة أن أقبلها جعلتني أنكمش، كان وجهها متجعدا جدا، بشَرتها ناعمة بشكل لا بشري، والأسوأ من ذلك كان رائحتها رائحة استطعت تمييزها لاحقا على أنها الكافور، الذي كانت بالتأكيد تضعه في أدراج منضدتها، والذي بمرور السنوات تسرب إلى خيوط ملابسها، هذا الشذا لم يكن ينفصل في مخيلتي عن فكرة «الجدة». إلى أبعد ما يمكنني تذكره، لم يكن لها أي اهتمام ظاهري بي. المرة الوحيدة التي أعطتني فيها هدية، كان كتابا مستعملا من قبل طفلين أو ثلاثة قبلي، سيرة ذاتية لبينجامين فرانكلين. أتذكر قراءتي له كاملا حتى أنني أستطيع أن أستدعي بعض الوقائع، زوجة فرانكلين المستقبلية، مثلا، ضحكت منه في المرة الأولى التي التقته فيها يتجول في شوارع فيلاديلفيا متابطا قطعة رغيف كبيرة، كان للكتاب غلاف أزرق رسم عليه مصورات ظلية. من المؤكد أنني كنت في السابعة أو الثامنة في ذلك الوقت. بعد موت أبي، كشفت عن وجود صندوقٍ كان يعود مرة لأمه في قبو منزله، كان مقفولا، فقررت أن أفتحه بالقوة، بمطرقة و مفك براغ، ظانا أنه ينطوي على سر دفين، كنز ضائع لزمن طويل، وبسقوط المغلاق ورفعي للمزلاج، كانت هناك، مرة أخرى تلك الرائحة، مندفعة نحوي، مباشرة، محسوسة، لكأن جدتي نفسها كانت هناك. شعرت أنني للتو قد فتحت تابوتها. لا شيء مهم وجدته فيه: مجموعة من سكاكين الحفر، كومة من المجوهرات الزائفة، أيضا، غلاف بلاستيكي صلب لكتاب الجيب، وصندوق ثماني الأضلاع بذراع مثبتة، أعطيت هذا الشيء لدانيال، ورأسا بدأ باستخدامه على شكل كراج متحرك لأسطول السيارات والشاحنات الصغيرة الذي عنده. عمل والدي بشقاء طوال حياته، حصل على وظيفته الأولى في سن التاسعة، في الثامنة عشرة كان يدير عملا في تصليح أجهزة الراديو مع أحد أشقّائه، باستثناء فترة قصيرة عين فيها كمساعد في معمل توماس إيديسون (سحبت منه الوظيفة في اليوم التالي لمعرفة إيديسون أنه يهودي)، لم يشتغل والدي لأحد غير نفسه، كان رئيسا مرهقا جدا، أكثر تطلبا من أي أحد غريب. انتهى محل أجهزة الراديو ليصير متجرا صغيرا للأجهزة، و الذي بدوره تحول إلى دكان واسع للمفروشات، من هناك بدأ بالاشتغال في العقارات (يبتاع مثلا، منزلا لأمه كي تسكن فيه)، حتى أخيرا استبدل الدكان بهذا العمل، مركزا اهتمامه به حتى صار مجالا تجاريا في حد ذاته، شراكته مع اثنين من إخوته استمرت من مجالٍ لآخر.