هيئة الاتصالات ل«عكاظ»: 166 ملياراً حجم سوق التقنية في السعودية    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يرأس الوفد المشارك في قمة الذكاء الاصطناعي    المواقف السعودية ثابتة لم تتزحزح    أمير الشرقية يتسلّم شهادة تسجيل "القرية الشعبية" ضمن موسوعة غينيس    الإنسان قوام التنمية    زار" خيبر" واستقبل المواطنين.. أمير المدينة: القيادة مهتمة بتنمية المحافظات والارتقاء بمستوى الخدمات    3.1 مليار لمستفيدي "حساب المواطن"    الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    السماح باستخدام مسحوق الحشرات في الأغذية    «الإحصاء»: المملكة تتصدر مجموعة ال20 في مؤشر الأمان    القيادة تعزّي رئيس ناميبيا في وفاة مؤسس الجمهورية    تحتال على أقاربها بزوج وهمي    محمد رمضان يشوق جمهوره بمدفع رمضان    4 يهددون صدارة «الدون» هدافي دوري روشن    السيتي والريال.. مواجهة نار في ملحق دوري الأبطال    بعد إقالة أروابارينا.. نجل يوردانيسكو يقترب من تدريب التعاون    انطلاق بطولة" موسم الرياض للبادل P1″ على ملاعب "بوليفارد سيتي"    نائب أمير مكة يطلع على خطة "التجارة" لرمضان    حادث يودي بحياة معلمة بالمدينة المنورة    إلزام المطاعم بتنظيم حركة مرور مندوبي التوصيل    الموافقة على تأسيس أول جمعية في مجال الميتاجينوم والميكروبيوم    رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون: منتدى الإعلام ينسجم مع الرؤية    رئيس الوزراء الصومالي يزور حي حراء الثقافي بمكة    منع بيع التبغ في الأكشاك والبقالات    "هاربن 2025": "أخضر الكرلنغ" يكتسح تايلاند مُسجلاً الفوز التاريخي الأول في الأسياد الشتوية    نائب أمير الرياض يشرّف حفل سفارة إيران    القادسية يجدد عقد المدرب الإسباني ميشيل جونزاليس حتى 2027    الاتفاق يؤكد غياب لاعبه "موسى ديمبيلي" حتى نهاية الموسم    حرس الحدود ينقذ مواطنًا تعطلت واسطته البحرية في عرض البحر    NASA تطلق مسبار باندورا قريبا    Google عن Deepseek تقنيات معروفة ولاتقدم علمي    انطلاق فعاليات معرض الكتاب بجازان.. اليوم    إيلون ماسك: سأستعمر المريخ    أُسرتا مفتي ومؤمنة تتلقيان التعازي في فقيدهما    زهرات كريهة الرائحة تتفتح بأستراليا    فصيلة الدم وعلاقتها بالشيخوخة    علاج مبتكر لتصلب الأذن الوسطى    هزيمة النصر مطلب    تريليون ريال مشتريات النقد الأجنبي خلال 3 أشهر    عرب الصمت !    ثانوية الحرمين تحتفل بذكرى يوم التأسيس    بشراكة بين جمعية السينما ومركز "إثراء"..    «هيئة الأدب» تختتم مشاركتها في معرض نيودلهي للكتاب    "أم 44" يظهر تحديات النساء في منتصف العمر.!    الديموقراطية الأمريكية بين رئيس الإبادة ورئيس التهجير القسري    "مفوض الإفتاء بعسير": يستقبل آل جابر المُعين حديثًا    النمر العربي.. حماية وإعادة توطين    27 اكتتابا جديدا متوقعا في 2025    جمعية الكشافة السعودية تُشارك في اللقاء الكشفي الدولي العاشر    أمير الشرقية يكرم المشاركين في مبادرة «خدمتكم فخر»    أمير جازان يستقبل مدير الدفاع المدني السابق و المعين حديثاً    فجر السعيد: أعتذر للعراق وأعتزل النقد السياسي    والد عبدالله الزهراني في ذمة الله    مستشفى دله النخيل بالرياض ينقذ مريضة من ورم في الرقبة ممتد للقفص الصدري    تخريج الدورة التأهيلية للفرد الأساسي للمجندات الدفعة السابعة بمعهد التدريب النسوي    شعبان.. محطة إيمانية للاستعداد لرمضان    حسن التعامل    %75 نسبة تفوق الحرفيات على الذكور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصص صيف - الإخوة
نشر في الحياة يوم 23 - 07 - 2009

في منتصف الشارع الرئيس، الذي يشطر المدينة إلى شرقية وغربية، يقع دكان الخضار الذي لا يشبه غيره في المدينة، فهو لا يعرض يومياً سوى صنف واحد، قد تمر أيام عدة قبل عرضه مرة أخرى، وربما لا يراه أحد طوال أشهر بعد ذلك اليوم.
كان يدير المكان ثلاثة رجال متشابهي الملامح، ما جعلني أقرر أنهم أشقاء. وكان اللافت أن الثلاثة لا يتحدثون معاً. فقد وقفت مراراً أمام المكان، وحاولت سماع أحدهم يخاطب آخر، وهو ما لم يحدث، ما جعلني أفكر فيهم إلى حد يشبه التفكير في وقائع قصة تسمعها أو تقرأها، وتتساءل عن الأسباب وراء وقائعها المثيرة.
كانوا أشبه باللغز، على رغم أن الحياة في الشارع لا تبدو مخدوشة أو مهجوسة بهم، ما جعلني أفكر أن في الأمر شيئاً من التواطؤ غير المعلن. وما جعلني أيضاً، أحاول أن أرسم صورة لحياتهم بعد انتهاء العمل.
وحين انتظرتهم ذات يوم، أغلقوا المحل في صمت، وخرجوا معاً، ثم دخلوا إلى مطعم قريب، وتناولوا وجبة دسمة، ثم خرجوا في صمت مشابه.
قدّرت أن الثلاثة يعانون من بكم كليّ، لكنني رأيت شفاههم تتحرك، وهم يتجهون إلى دار السينما الأكثر شعبية في المدينة، والتي لا تبعد من دكانهم والمطعم إلا بضع خطوات فقط.
وفي اليوم التالي، فوجئت بهم يكررون الخطوات ذاتها في شكل مبرمج بدقة... المطعم والطعام ودار السينما، على رغم أن الفيلم لم يتغير.
كانت محال الخضار صاخبة في محتوياتها المتنوعة وفي ألوانها، وفي الأصوات المنبعثة منها، إلا ذاك المحل الذي يديره الإخوة الثلاثة. فكرت في سبب اكتفائهم بصنف واحد من الخضار، وبنوع واحد من الطعام، وبدار السينما ذاتها يومياً، ولم أجد تفسيراً منطقياً أو مقبولاً، ما جعلني يوماً أوشك أن أسألهم، لكنني خشيت العواقب في حال غريبة، وأبطال غامضين.
لم يكن ثمة ما يوحي بخلافات بينهم، بل يمكن القول إنهم كانوا منسجمين تماماً، طالما كانوا يتبعون آلية واحدة في المحل وفي الشارع والمطعم والسينما. وقد حاولت أن أتخيل حياتهم في المنزل، وحرتُ في معرفة ما إذا كان الثلاثة متزوجين، أو أيٌّ منهم على الأقل. وفوجئت بخيالي يذهب بعيداً، ويوغل في غرائبية شرسة.
أخبرت أمي وإخوتي عنهم، ففوجئت بهم جميعاً يعرفون كل شيء. ولكنني لم أعثر على إجابة واحدة عن الأسئلة التي تلوب في داخلي. لكن أمي قالت كلمة بدت عابرة: (أوادم).
كنا في بداية العطلة الصيفية، وكانت أمي تلح علينا نحن أبناءها الثلاثة، كي نجد عملاً يساعد العائلة. وحين فكرت في سؤال الإخوة الثلاثة، حاولت أن أتخيل يوماً صيفياً طويلاً بينهم، وقدّرت أنه سيكون قاسياً. ولكن فضولي اللاهث، جعلني في النهاية أقدم على تلك المحاولة. وفوجئت بموافقتهم السريعة، كأنهم كانوا في انتظاري.
كانوا يتحدثون بأصوات خافتة. وكان كلامهم مقتضباً، قصيراً، وسريعاً، يشبه الأوامر العسكرية القاطعة. لم يكن ثمة نقاش أو حوار أو تباين في أي رأي، وكأنهم اتفقوا في الليلة الماضية على التفاصيل، كما يحدث في العمليات العسكرية، وعمليات السطو والقتل. ولم أدرك أيهم الأكبر والأوسط والأصغر. كان اثنان منهم ينفذان مطلب الثالث، وكانوا متشابهين جداً في كل شيء، إلى الحد الذي يتيح مساحة عريضة للخطأ في تمييزهم.
كنت متوجساً جداً، كأنني في كهف في حكايات الجن أو الجزر البعيدة والموحشة، وهم يتحركون كدمى معلقة بخيوط غير مرئية، يتحكم في توجيهها شخص خفي.
عندما انتهوا من بضاعتهم، أغلقوا المحل، وساروا بضع خطوات نحو المطعم القريب، ويبدو أنهم كانوا يعتقدون بوجوب مرافقتي لهم من دون دعوة أو إشارة. وحين اقتربوا أدركوا أنني ما زلت واقفاً أمام المحل، فرفع أحدهم يده وأشار إلي بالمجيء. لحقت بهم، وجلست إلى طاولتهم. لم يأت أحد. مر وقت طويل، ثم فوجئت بشاب يحمل صينية يتصاعد منها البخار، ويضعها على الطاولة. كانت الرائحة شهية حد قدرتها على القتل. تناولوا الخبز، وأخذوا في التهام الطعام المكون من اللحم المهروس، والبطاطا المحمّرة، مع بعض البصل الأخضر والفلفل الحار. أكلت قليلاً، وعيناي تحاولان التقاط شيء ما. انتهوا واتجهوا إلى دار السينما ذاتها. التفت أحدهم خلفه وأشار إليّ، فأدرت وجهي وقصدت البيت.
لم أعد في اليوم التالي. وحين مررت بهم بعد يومين، ألقيت التحية، فردّ أحدهم بيده، وأشار إليّ بالاقتراب. أعطاني ثلاثين قرشاً وقال في صوت خافت: مع السلامة.
سألت كل من أعرفه. أخبرني بعضهم أن الإخوة فقدوا أمهم وأباهم معاً في يوم واحد. ثم أخبرني أحدهم أنهم فقدوا أخاً رابعاً كان يشاركهم اللعب في الريف قبل النكبة. وأخبرني ثالث أنهم تزوجوا جميعاً وطلقوا زوجاتهم لأنهن لم ينجبن لهم أبناء كالآخرين. وأخبرني رابع أن الثلاثة كانوا فدائيين في الغور، وأنهم كثيراً ما عبروا النهر إلى الضفة الغربية، وشاركوا في عمليات عسكرية، وجُرح اثنان منهم، وقتل الرابع في إحدى العمليات، أو فقد، ولم يعثروا عليه.
فوجئ الشارع بالدكان مغلقاً ذات صباح. وفوجئ الناس بالموت، ولكن أحداً لم تأخذه الدهشة لموت الإخوة الثلاثة معاً في ليلة واحدة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.