وأطل علينا شهر الخير والبركة، شهر التراحم والترابط والتواد، الذي فيه يتغشى الناس الرحمة وتدب بينهم السكينة لاسيما في مجتمع يرفل بالأمن والترابط الاجتماعي. وفي رحاب مكةالمكرمة تنعكس الوحدة الإسلامية في صورة نادرة، يتعاطف أهالي مكة مع زوارها وينصهرون في ساحات الحرم المكي الشريف على موائد رمضانية لا تفرق بين صغير وكبير، غني وفقير. ومن هذا المنطلق، فإن السماحة والتسامح مطلب حضاري وديني فالدين الميسر ينهى عن التشدد والمغالاة والرعونة، والمشادة تكون بالمغالاة في هذا الدين، ومجاوزة حدوده وعدم ارتضائه والقناعة بأحكامه، وأوامره ونواهيه، فالمتشدد المغالي لا يقف عند حدود الشريعة، ولا يتقيد بضوابطها، ولا يرعى آدابها وأحكامها، وإنما تكون معاملته بناء على ما تمليه عليه شدته ورعونته، ثم يقع الفساد والانحراف والزلل، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ لأن الدين له العلو وله الرفعة، وله الظهور وله التمكن، فمن شاد الدين غلبه الدين، فرجع القهقرى، ولم يفز من شدته ورعونته إلا بالخسارة والحرمان. إن هذا الشهر الفضيل فرصة سانحة لكل الناس لإشاعة ثقافة التسامح والتواد بعيدا عن كل ما يثير الأحقاد، وليدرك كل منا أن المحبة كنز لا ينفى ولا يتأثر بكل ما يحيط بالمجتمعات من تغيرات. بقي القول إن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي لا يمكنه العيش بمفرده بل لا بد من تعايشه مع من حوله ومن مقومات الشخصية المتزنة الرصينة أن يكون هذا التعايش مرتكز على ثقافة التسامح والبعد كل البعد عن النعرات والخلافات التي ما دبت في جسد مجتمع إلا وأهلكته ولنا في ذلك شواهد عديدة ربما لا يتسع المقام لسردها لكن المؤمن الفطن هو من يقرأ من الحراك المحيط به كيف بالإمكان تطوير علاقاته المجتمعية وتطبيق ثقافة الجسد الواحد التي دعى إليها سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام وأمرنا بها وبكل ما يؤصلها بين الناس، لقد حان الوقت ليكون المجتمع وحدة مترابطة قادرة على صد أي محاولات لاختراقات قد تقع، فالحصانة الذاتية أولى لبنات حصانة المجتمع كوحدة مترابطة. وهذا الشهر المبارك هو بوابة حقيقية للبدء في صفحة التسامح القادرة على تحصين المجتمع وتقوية وشائج الترابط بين أبنائه.