من أرض مكةالمكرمة تخرج ريشة الفنان عبدالحليم الرضوي، فقد ولد بها في العام 1939 وجاب شوارعها كأحد الأبناء المحبين والمخلصين لمدينته التي شب على عينيها وعلى صوت أذانها ووجوه الغادين والرائحين الى تلك المدينة المباركة، اكتشف المعلمون بشكل مبكر في المدرسة موهبة الفتى اليتيم لديهم فكانت كلمات الثناء الصغيرة تعملق الفنان في داخله وتطلق طاقة الإبداع المكنونة لدى الفتى الذي يكافح ليعيش في ظل والدته التي أخذت تعمل في الخياطة وتفصيل الملابس النسائية، وقد تكون هذه المحطة الأهم في تاريخ الفتى الذي تتبدل أمامه الألوان ليتيه في حمى اللون والتشكيل، مختزلا حالة الفن التي يتشربها على يد الأم حيث يذوت لاوعيه عنصر الجمال الذي تعلق شجر الفاقة والفقر، ليترك العين الصغيرة تتأمل الخيوط وكأنها لوحات منساحة في كل أركان البيت المتواضع، ظل تفوقه الفني في مدرسته يدفعه إلى الأمام ليتخلص من وجع الفقر الذي جعله يشعر أنه الأقل أمام زملائه في المدرسة، كانت قامة الفن عالية مما جعله محط إعجاب الجميع من زملاء ومعلمين، كانت محطة الطفولة المحطة الأخصب في حياة الرضوي، لأن الشعور بالحياة يجعل الأغصان الضعيفة تندفع باتجاه الشمس مؤكدة على البقاء المثمر، فكان للرضوي ذلك حيث فازت اليد التي تمازجت مع اللون والفرشاة بلوحتها الأولى التي أعلنت انطلاق فنان سيؤرخ الطرقات والإنسان والأمكنة بألوانه، وستؤرخ كذلك مدرسة العزيزية التي حملت طالبها الحالم بين أضلاعها لسنوات طوال، بلوحة الرضوي والتي وسمها ب«قرية» ليأخذ المكافأة الأهم والأغلى في تاريخ حياته، كان مبلغ الجائزة مهما بالنسبة له، لكن الجائزة هي الأكثر أهمية حيث فتحت الطريق على مصارعها للخطوات القادمة من بيت الخشب الصغير مبشرا بحالة فنية مهمة على المستويين العربي والعالمي. غادر طائر مكة الصغير شعاب البلاد إلى روما، راسما أحلامه على دفتر المخيال وملونا الطرقات التي شحبت على واقعها وشحت وكانت دون لون، ولم يكن هذا الشاب اليافع قد اعتاد لين الحياة بعد، فمكث في البلاد الغريبة بإصرار كبير حتى تمكن من الحصول على منحة بمساعدة سفارة المملكة السعودية ليبدأ المشوار الكبير ليعود في العام 1964 الى السعودية معلما للتربية الفنية، قضى سنته الأولى في إيطاليا دون الحصول على منحة دراسية ما جعله يمد أذرعه على الحياة، يمتد متحديا سوء الطالع، ويعمل ليظل واقفا، كي يحصل على بغيته التي خرج من دياره لأجلها، روما بدأت تدب في داخل هذا الشاب الغريب الذي يتحسس روح المدينة ومفاتيحها ويحاول طرق أبوابها، والانشداه أمام تماثيلها الواقفة بأيدي فنانين عمالقة، أخذ الفال الجميل يتابع الرضوي ليطرح له مئات اللوحات والفنانين الذين كانوا بداية العدوى له في تخصيب التجربة، وكان الرضوي متشربا للمدرسة الواقعية، فحين أقيم له أول معرض له في مكةالمكرمة نبضت لوحاته بروح الفراشات والطيور والزهور، ليعود إلى مدريد بغرض الدراسة ويعود بروفيسورا محترفا بالفن التشكيلي، ويتشرب روح فنانيها ويلقح تجربته المتعطشة لما هو جديد ومتميز ليتحول إلى المدرسة الرمزية التي اختزلت تجربة الفنان وأتاحت له التعرف على رؤى مختلفة ومدارس تبصر كلمة اللوحة، إلا ان الرضوي عاد لتشكيل هويته مرة اخرى بأسلوبية جديدة تنفخ في روح التراث فتلونه مرة أخرى من خلال معارضه التي أقامها في العديد من الدول العربية والأجنبية ليكون فتحا جديدا في المنطقة. ويكون مؤرخا برسالته الفنية عن الحقبة التي عايشها في منطقته حيث حرص على نقل التراث عبر لوحاته البسيطة والعميقة في آن واحد، فهو يؤرشف الشوارع وبيوتات الطين والرقصات الشعبية تاركا لغة حرة تسيح بين الألوان والدوائر التي تعشق لوحاته. ويعتبر الرضوي من مؤسسي معاهد التربية الفنية بالرياض، ليقوم بإنشاء مركز الفنون الجميلة في مدينة جدة، ليدعم بذلك العمل الفني الواعد والفنانين الذين يحاولون الخروج الى رؤى مختلفة ومدارس لا يستطيعون الوصول إليها بحكم صعوبة التواصل مع الفنانين العالميين ومعرفة المدارس في تلك الفترة، فكانت للرضوي أياد خضراء في دعم الفن في المملكة بتزيين مدينة جدة بجدارية البحر، حيث انطلق الرضوي الى عوالم أخرى من الفن والتجريب ممتدا الى النحت مبدعا عدة أعمال انتشرت هنا وهناك على مداخل جدة، مطلقا روح المبدع في التجريب والابتكار لتكون رسالة يوقعها الرضوي للأجيال القادمة من أبناء السعودية والعالم العربي. ترك الرضوي إرثا مهما للأجيال القادمة، ودرسا أكثر أهمية في معركة الكفاح مع الحياة، ليثبت ان الإرادة الأكثر إيقاعا في دوامتها. في العام 2006 فارق الرضوي الحياة في أحد مستشفيات جدة تاركا بصماته تدل عليه في شوارعها وصالاتها الفنية.