لا أحد يعلم، هل اختارتهم قمم الجبال ليسكنوا ويقيموا فيها، أم أنهم هم من اختار الإقامة والسكن على هذه القمم الصعبة التضاريس، والتي خبرت بنفسي الصعوبة فيها على مدى ثماني ساعات، كانت أقرب لرحلة موت، إذ أننا سكان المدن لم نتعود على هذه الصعوبات في الحياة وممارستها كما يمارسها سكان جبال محافظة هروب الواقعة على مسافة 100 كلم شرقي جازان. تنقلت من سيارة إلى أخرى حسب الموقع الذي كنت أتجه إليه، وشعرت بجزء بسيط مما يعانيه السكان من وعورة طرق ومساكن بسيطة وافتقار للمقومات الطبيعية التي تحيل عيش الإنسان إلى رفاهية. وإلى جانب ما جربته هناك من صعوبة حياة، حاورتهم، سألتهم عما ينقصهم.. وجدت أن وراء كل منهم قصة مؤلمة.. أو قصة مضحكة مبكية في آن واحد.. حتى أنهم لم يعودوا يكترثون كثيرا بظروف الحياة التي يعبرون سنواتها بالصبر والتحمل. دخلت مدينة هروب، وجدت الطرق ممهدة، والحدائق متوفرة، ظننت للوهلة الأولى أن كل أنحاء هروب بهذا الشكل الجميل، لكنني فوجئت عندما دخلت إلى العمق، حيث لا كهرباء ولا ماء ولا صحة ولا تعليم، والعشوائيات تسيطر على المشهد بالكامل، والسكان في جيئة وذهاب متلفعين بالأمل والحياة، ويتضح ذلك جليا في ابتسامات الأطفال البرئية الغضة أثناء لهوهم في الأزقة الترابية بين أشجار السدر. الجوف.. قرية البسطاء اسقللت سيارة دفع رباعي لأحد الأهالي، نقلنا معه وهي يتحدث لنا محذرا «ستشاهدون حياة غير حياتكم، لذا من واجبي أن أحذركم من ما قد يعتمل في نفوسكم من ألم»، دخلنا معه قرية تسمى الجوف، وصلنا إليها عبر طريق ترابي غير معبد، واستقبلنا فيها المواطن عبده مشيري الذي دعانا إلى زيارة منزله وأهل بيته. كان المنزل مشيدا من العيدان والقصب على شكل عشة أسطوانية، دلفنا إلى داخله واستقبلتنا زوجته السيدة حزيمة يحيى حقوي، قدمت لنا واجب الضيافة من القليل في منزلها، بادرتني بالحديث: نحن نعيش في قرية لا يعلم عنا أحد، أحرقتنا الشمس وأنهكتني المشاوير التي أتكبدها من أجل إنهاء إجراءات بطاقتي الوطنية التي لم تنته إجراءاتها حتى الآن، رغم أن أمير المنطقة وجه المعنيين بإنهاء وضعي، ولي الآن ثلاث سنوات وأنا أراجع بين أحوال صبيا وجازان دون جدوى. والتقط زوجها عبده طرف الحديث ليكمل: قصتي أغرب من الخيال، حيث كنت يوما في منزل وإذا بأشخاص يطرقون الباب، ويطلبون مني إثباتي، وبعد أن سلمتهم إياه لم أشاهدهم منذ تلك اللحظة، حدث ذلك عام 1404ه، وإلى الآن وأنا بدون بطاقة هوية، ولهذا السبب حرم أبناؤنا العشرة من التعليم والعلاج ومن أبسط الحقوق التي يتمتع بها كل مواطن، ولدي معاملات في أكثر من جهة لاستعادة بدل فاقد لبطاقتي، ولكن ليس هناك ما يشير إلى أن المسألة ستحل قريبا، علما بأن والدي كان رئيسا لفرع هيئة. سألته عن كيفية توفير لقمة العيش، قال إنه يعتاش من بيع الحطب هو وأبناؤه. منازل الشمس ولم يكن عبدالله حسياني أفضل حالا من جاره عبده، قال إنه يتكسب من عمله في حرث الأراضي الزراعية حيث يتقاضى عشرة ريالات عن الساعة، ولا يعرف أسطوانة الغاز، إذ تتولى زوجته الطهي على الحطب الذي يجمعونه كل صباح، ويستعير سلكا كهربائيا من جاره. والتقيت زرعة الهروبي، وهي عجوز في الستين من عمرها، غيرت السنوات ملامحها، وأبلغتني بأنه تعمل مستخدمة في إحدى المدارس منذ ثلاثة عشر عاما، وتتقاضى ألف ريال شهريا، وهذا المبلغ تجمعه لها المعلمات في المدرسة، حيث إن زوجها توفي وترك لها العديد من الأولاد والبنات وليس لهم عائل غيرها، وشاطرتها مشغلة غفيري الحديث قائلة «لدي 12 من الأبناء ونسكن في منزل مكون من غرفتين متفارقتين تدخلها الشمس من جميع الأنحاء»، مشيرة إلى أنها امتهنت البيع من أجل إطعام أولادها، وباغتتني بسؤال: هل ستعطوننا منازل تقينا لهيب الشمس؟!. وفي طريقنا تابعت طريقة التحطيب وطريقة جلب الماء بقرية الجوف، حيث يعتلي الأطفال ظهور البغال من أجل جلب المياه من القرى الأخرى، تابعت ذلك إلى خرجنا من القرية وهم يطلبون منا نقل معاناتهم إلى المسؤولين، مؤكدين لنا «لم يزرنا أحد من قبل ليطلع على أحوالنا». غياب واضح للخدمات في قرية الرقاد، التقيت السيدة شوقة أحمد فرحان، ذكرت أنها تسكن في منزل ذي غرفة واحدة ودورة مياه فقط، ومطبخها بذات الغرفة التي تسكنها، وأضافت «لدي طفلان، ومعاناتنا تكمن في عدم وجود مستشفى في هروب، حيث نضطر للذهاب إلى صبيا في حال المرض، وإذا هطلت الأمطار يصعب علينا الذهاب، ويخير المريض بين الموت على فراشه أو في السيول والأودية». فيما شرح المواطن قاسم هروبي قائلا: كثيرا ما نضطر إلى حمل المريض على أكتافنا ونقطع به عشرات الكيلومترات من أجل الوصول إلى طريق آمن في موسم الأمطار، ومن ثم نذهب به إلى مستشفى صبيا التي تبعد مسافة 50 كم، ومنذ سنوات ونحن نطالب بمستشفى أو مستوصف في هروب ولكن طلبنا لم ينفذ حتى الآن، واستطرد: القرية في غياب واضح للخدمات الكهرباء والماء والتعليم والصحة، ويقتات السكان على مخصصات الضمان الاجتماعي وينفقونه على قطعان الأغنام التي تعد مصدر الرزق الوحيد، إذ منها يأكلون ومنها يشترون ملابس أطفالهم ومنها يدفعون مهور زوجاتهم. 6 قرى دون مدارس وأفاد عدد من سكان قرى صهيد والثاهرين والرصعة والخليلة وحسيد والفقر، بعدم توفر مدارس بنات في قراهم، حيث تحدثت معي نساء هذه القرى مطالبات بمساواة قراهن بالقرى الأخرى من حيث إنشاء المدراس أو تأمينها لبناتهن، مؤكدات أن مواطنا يدعى علي الهروبي تبرع بقطعة أرض من أجل إنشاء مدرسة للبنات، وتبرع ببناء فصول دراسية وطلب من إدارة التعليم توفير معلمات ومناهج، ولكنه لم يلق تجاوبا حتى الآن. ثمان ساعات قضتها «عكاظ» بين دمعات حزن وبراءة أطفال الذين لم تغب عنهم روح الفكاهة حيث غادرنا هناك والأطفال يبتسمون بجوار سيارتنا ويحاصرون سيارتنا من كل جانب ولا حيلة لك إلا بالتوقف وتبادل الحديث معهم وترى في وجوههم ندبات الدهر وأسارير الفرح مجتمعة رغم أنهم لا يملكون أدنى الوسائل الترفيهية عدا حبل مربوط بين شجرتين من السدر يمارسون خلاله لعبة «المرجيحة» وعلى مقربة منهم ترى مساكنهم التي تتكون من الصفيح والشبوك والأشجار. من جانبه أوضح رئيس بلدية هروب حسن بن علي أبو طالب، أنه بالنسبة لسفلتة قرية الجوف فقد تم سفلتة جزء منها والمتبقي سوف يتم سفلتتها قريبا ضمن المشاريع الجاري تنفيذها، وفيما يختص ببعض القرى الجبلية التي لم تصل إليها الخدمات البلدية، فإن ذلك بسبب وعورة الطرق المؤدية إليها وعند فتح الطرق وسفلتتها من قبل إدارة الطرق بجازان، فإن البلدية ستبادر فورا إلى إيصال الخدمات لكافة هذه القرى، علما بأنه تم اعتماد عدد من المشاريع التنموية لبلدية محافظة هروب في ميزانية العام المالي الحالي 1436/1435ه بمبلغ 46 مليون ريال وتشمل مشاربع السفلتة والأرصفة والإنارة، بالإضافة على مشاريع درء أخطار السيول، وتصريف مياه الأمطار، وإنشاء الحدائق وممرات المشاة وساحات مرافق بلدية، وكذلك مشروع التخلص من النفايات وردم المستنقعات، وآليات التخلص من النفايات ومشروع لحماية المنازل من الانهيارات وحماية الطرق وتثبيت الصخور ومشروع التسمية والترقيم للشوارع والميادين. واستطرد أبو طالب: كل ذلك بالإشارة إلى أن البلدية نفذت عددا من المشاريع الحيوية حيث قامت بسلفتة وإنارة معظم أحياء محافظة هروب وبعض القرى التابعة لها، كما أنشأت البلدية مصدات خرسانية على ضفاف الأودية لحماية المنازل من خطر السيول وأيضا إنشاء عدد من العبارات وتصريف مياه الأمطار. أما بالنسبة للحدائق، فقد قامت البلدية بإنشاء سبع حدائق وتزيين الشوارع الرئيسية وتنفيذ عدد من المجسمات الجمالية وبالنسبة للنظافة فإن البلدية تعمل حاليا على نظام التشغيل الذاتي كما يجري تنفيذ مشروع مبنى البلدية وسوق الخضار