نشر سعد البازعي كتابه (قلق المعرفة) عام 2010 ويطيب لي أن أستعرض بعض الأفكار في هذا الكتاب وهي طبعا لا تستغرق سوى جزء يسير منه، فمساحة المقال لا تكفي لقراءة كتاب إشكالي كهذا الكتاب كاملا. والكتاب توليف لمقالات وبحوث سابقة يجمعها جامع وإن تباعد زمنها وهو إبراز طابع القلق المعرفي. ومما يثير الدهشة أن الكاتب يتعامل مع مقالاته بوصفها شيئا مستقلا عنه، فالنص يستقل عن صاحبه فور الانتهاء من كتابته فما بالك بنصوص كتبت في أوقات متباعدة، ويرى أن قراءة هذه النصوص مرة أخرى بعد هذا الغياب يكون بمثابة إعادة كتابة. فالقراءة تكتب والكتابة تقرأ من جديد. وثمة تركيز على انفتاح دلالة المقروء وتغيرها حتى بالنسبة لمؤلفها. وهذا حدث مع البازعي حين رجع لقراءة مقالاته ودراساته إذ وجد فيها شيئا جديدا لم ينتبه له قديما؛ أي عند إنشاء النص «الأصلي» على افتراض أن هناك «أصلا» لمفهوم النص.. فالنص أصبح حسب غادامير تاريخه؛ أي إن دلالة النص هي مجموع كل اللقاءات (القراءات) التي حصلت للنص في غضون التاريخ. وفي كل قراءة يأتي النص محملا بتاريخه (بتاريخ قراءاته) ويواجه قارئا محملا أيضا بتاريخ ثقافي هائل وهذا ما يسمى عند غادامير بانصهار الآفاق: أفق النص وأفق القارئ. انسجاما مع تاريخية النص وتغيره (إن لم نقل قلقه بالمعنى الذي يستخدمه البازعي كما سنرى بعد قليل)، فإن الكتابة أيضا تنطوي على قلقها الخاص. فالكتابة لا تأتي نتيجة تخطيط ذهني مسبق بحيث تكون الكتابة مجرد نسخ أو تصوير لما تم إنجازه في الذهن، فهذه الكتابة ليست من النوع المبدع القلق بل هي كتابة مطمئنة إذا استخدما مصطلحية البازعي نفسه. وبعبارة أخرى، فالمؤلف الحقيقي هو من يجعل الكتابة تقوده لا أن يقودها هو.. وهذه ليست سلبية فالمؤلف هو ذاته الكتابة وقد تحررت من كل الأطر المسبقة والمألوفة. في مقدمة الكتاب يعرف البازعي معنى القلق. وقبل التعريف فإنه يحدد فصول الكتاب تبعا لثيمة القلق هذه؛ فلدينا مثلا: قلق الأطر، قلق المفكر، قلق التفلسف، قلق الانتماء، قلق الكتابة عن اليهود ونحوها. القلق حسب عبارة الكاتب (هو ناتج الوقوف أمام الاختلاف، اختلاف الثقافة عن ثقافة أخرى، أو هو ناتج الأسئلة المحيرة التي لا تتوقف المعرفة عن طرحها والتنامي من خلالها) من خلال التعريف يتضح أن (الاختلاف) سواء أكان اختلافا ثقافيا أو اختلافا معرفيا (الحيرة أمام الجديد والمختلف) هو أساس القلق. ولمزيد إيضاح أقول إن الإنسان بطبعه لا يشعر بالقلق إلا عندما يرى شيئا جديدا عليه وغير مألوف له. وهذا القلق من الجديد المختلف الذي قد يبدد الانسجام والتماثل والاطمئنان يمكن أن ينتهي إلى نتيجتين: انغلاق أو إبداع. والقلق المعرفي هنا هو الإبداعي لا الانغلاقي. لذا يقول الكاتب (القلق مصدر للمعرفة .. وفي الوقت عينه نتيجة لها). وهذا هو القلق المبدع. في قلق الأطر، وهو الفصل الأول من الكتاب، يتحدث كاتبنا عن العلاقة بين المعرفة والثقافة أو بين الفكر والإثنية ويحلل بدقة وعمق نماذج هذا القلق. ومن نماذج صلة الفكر والإثنية ادعاء الفيلسوف الألماني الشهير هايدجر أن الفلسفة أوروبية بطبعها.. لم يحدد البازعي موقفه رفضا أو قبولا أول الأمر وإنما اكتفى برصد علاقة الفكر بالإثنية، رغم أنه سيصف في صفحات لاحقة موقف هايدجر بأنه مبالغ فيه (وهذا إقرار من البازعي مبدئيا بصحة قول هايدج)، كما انتقد البازعي عموما اختزال الفكر في مقولة الإثنية، لكونها غير قادرة على تفسير تطور الفكر إلا إذا ضممنا لها مقولة الفئوية فيصبح التفسير أكثر معقولية. ولم يعط البازعي تفسيرا واضحا لمقولة الفئوية. أما الإثنية فهي بالنسبة له ليست عرقية وإنما ذات سمة ثقافية سوسيولوجية، إلا أن البازعي عاد واشتبه في كون ربط هايدجر الفلسفة بالغرب هو ربط بالمعنى العرقي واستند في ذلك على سوابق عرقية تورط فيها هايدجر كموالاته للنازية. هل هناك فلسفة عربية معاصرة؟ في هذا المقال يتفق البازعي مع هايدجر مرة أخرى في أن الفلسفة غربية. لكن يختلف البازعي عن هايدجر في أن اقتصار الفلسفة على الفكر الغربي ليس شيئا (عرقيا) كما رأى رينان وغيره ممن جرد العقل العربي من القدرة على التفلسف، بل فسرها البازعي ثقافيا؛ فثقافتنا روحية أو دينية والعقل والفلسفة شيء هامشي.