ثمة أشياء يجدر بك ألا تنساها، مهما ضعفت ذاكرتك أو ازدحمت بالأحداث والصور والأسماء، ثمة أشياء إن نسيتها نسيت معها ذاتك، أرضك، هويتك، تاريخك، وجودك بأكمله. كي لا يحدث هذا يلجأ الناس عادة الى التنقيب والنبش عما هو مطمور وغائب عن أعينهم من آثار مادية وغير مادية تركها أسلافهم لتكون دليلا حيا يطل منه الحاضر الوليد على الماضي الغائب. من بين الآثار التي تركها لنا الآباء نجد بعض الوثائق المحررة تنتصب مرايا تعكس لنا صورا مدهشة من حياتهم وأسلوب عيشهم ونمط تفكيرهم. وقد وجدت في كتاب (وثائق من الغاط) الذي حدثتكم عنه يوم أمس الأول، بعض الوثائق عن حياة جدات لنا تستحق منا التريث عندها لنتأمل صورهن عندما كن يخضن غمار الحياة قبل أكثر من قرنين من الزمن. من خلال تلك الوثائق نعرف أن المرأة كانت مستقلة اقتصاديا تبيع العقارات والمزارع وتشتريها وتؤجرها، وتستدين وتدين، وتهب مالها لمن تشاء، وتوصي بمالها حسب ما تشاء، دون أن يطلب منها معرف أو مرافقة محرم أو موافقة ولي أمر. ويلفت النظر في وصايا النساء، كثرة اللاتي توصين بأن ينفق من مالهن على من يؤدي فريضة الحج عنهن، مما يشير إلى صعوبة أداء الفريضة على النساء آنذاك فيتوفين قبل أن يكتب لهن أداء الفريضة. أيضا تفيد بعض الوثائق أن المرأة كانت تدلي بشهادتها فيؤخذ بها وقد جاء في إحدى الوثائق: «(...) كذلك حضرت عندي موضي بنت عبدالله بن ضبيب ولطيفة بنت عبدالله العجاجي وشهدن بمثل ما شهدت به في هذه الورقة، كتبه كاتبه عبدالعزيز بن عتيق الفداغ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم». كما يفيد بعضها أن المرأة كانت لها الولاية على القصر حيث جاء في إحدى الوثائق: «(...) وجعلت الولي على ذلك أختها رقية إلين يرشد عبدالله بن حسين ولد أختها، وإذا أرشد فهو الولي (...)». كذلك نجد في بعض الوثائق ما يدل على تقدير المرأة البالغ للعلم وحرصها على نشر المعرفة ودعمها لطلاب العلم بوقف الكتب عليهم، ليس هذا فحسب بل كانت بعض النساء على دراية بالكتب ذات القيمة العلمية بالنسبة للطلاب فنجد الواقفة تنص حرفيا على عناوين الكتب الموقوفة مثل ما ورد في وصية نورة بنت عبدالرحمن السديري: «(...) حضرت عندي الحرة الرشيدة نورة بنت عبدالرحمن السديري، وأقرت بعد إقرارها بالتوحيد وواجبات الإسلام بأنها قد أوصت (...) ويشرى من الثلث صحيح البخاري، والترهيب والترغيب للمنذري، ورياض الصالحين للنووي، وبلوغ المرام لابن حجر، وان بقي شيء من الثلث فيكون باعمال بر على نظر الوكيل (...)». نلاحظ هنا أن هذه المرأة قدمت في وصيتها وقف الكتب على أعمال البر الأخرى، التي تركتها لاختيار الموكل بتنفيذ الوصية، مما يؤكد اقتناعها بأهمية تلك الكتب وحاجة الناس اليها خاصة في عصرها حين كانت الكتب نادرة وغالية الثمن.