باتت أخبار المشاريع الجديدة والاعتمادات الضخمة التي ترصدها الدولة لتنفيذ هذه المشاريع تشغل عناوين صحفنا الرئيسية ووسائل إعلامنا المختلفة، وأصبحت هذه المشاريع وتلك الاعتمادات مادة خصبة يتناولها الكتاب في مقالاتهم، ويناقشها المحللون المختصون وغير المختصين، وترتفع معها وبها توقعات المواطنين وطموحاتهم، إلا أننا نلحظ كمتابعين لما يدور على الساحة الوطنية أن الحقيقة المجردة من العواطف والأهواء البعيدة عن التملق والتزلف تبدو غائبة أو مغيبة عن قصد أو غير قصد في معظم هذه المداولات وتلك الطروحات. وحينما نتحدث عن الحقيقة المجردة، فإننا نعني تلك القيمة المضافة والمردود الحقيقي والفعلي والنتائج الملموسة على أرض الواقع، أي بعبارة أخرى مدى تحقيق الأهداف التي سعت الدولة لتحقيقها من وراء رصد هذه الاعتمادات. وبالطبع، فإن ذلك يتوقف على عناصر كثيرة تشمل ضمن ما تشمل الدراسة الهادفة والمنطقية والدقة في التخطيط والكفاءة في التنفيذ وصحة تموضع المشروع في مكانه المناسب ضمن منظومة المشاريع المعتمدة في إطار خطة التنمية الشاملة أو ما يعرف بMaster Plan، بحيث لا يكون هناك مكان للازدواجية أو الهدر المالي أو الوظيفي أو الزمني بأي شكل من أشكاله. ونحن إذا حاولنا تطبيق هذا المعيار على معظم مشاريعنا وألقينا عليها نظرة فاحصة متأنية، فإننا سنلاحظ بعض الحقائق التي تتعارض مع هذا المفهوم، وتتناقض مع المنطق السليم، وتستعصي على القبول أو حتى على الفهم.. ولكي نكون أكثر وضوحا دعونا نتناول أحد المواضيع التي كانت محور نقاش في الأسابيع الأخيرة، ونعني به مشروع تأمين الغسيل الكلوي الذي وقعت وزارة الصحة عقوده مؤخرا مع بعض الشركات الأجنبية، بتكلفة إجمالية قدرها 13 مليار ريال، على خمس سنوات، وذلك لخدمة عشرة آلاف مريض، الدعوة مخصصة لثلاث شركات أجنبية حرمت المؤسسات الوطنية من الدخول فيها.. وهو ما يعني أن تقوم وزارة الصحة بشراء الغسيل الكلوي من شركات أجنبية خاصة تقوم بالإشراف الكامل والمباشر على كل مراكز الكلى التابعة لوزارة الصحة بكافة مناطق المملكة، بما في ذلك الخدمات الطبية والإدارية وتوفير الأجهزة والمستهلكات والأدوية.. وإنشاء 74 مركزا جديدا على مراحل، بالإضافة إلى استئجار 93 مركزا من المراكز القائمة حاليا والتي تتبع لوزارة الصحة.. وللوهلة الأولى قد يبدو أن هذا المشروع يوفر حلا نهائيا لجميع مشاكل مرضى الفشل الكلوي وينهي معاناة هذه الفئة من المرضى الذين هم بالفعل في أمس الحاجة للرعاية والدعم.. إلا أننا إذا أمعنا النظر في تفاصيل هذه العقود وقرأنا ما بين السطور، فإننا سنكتشف من المعطيات التي لا تتفق مع المنطق.. واليكم الأسباب: 1 إن إقدام أي جهة حكومية على شراء خدمة من الخدمات من شركات القطاع الخاص إنما يكون إما نتيجة لعجز هذه الجهة عن تقديم الخدمة على الوجه المطلوب، أو رغبة في تحسين الأوضاع، أو هروبا من مشاكل وتبعات تقديم هذه الخدمة بشكل مباشر.. وإذا طبقنا هذا المفهوم على مشروع تأمين الغسيل الكلوي نجد أن الشركات الأجنبية المتعاقد معها ستقوم باستئجار ما مجموعه 93 مركزا من المراكز القائمة حاليا، والتي يقع معظمها ضمن حدود المستشفيات الحكومية.. وبغض النظر عن مدى نظامية هذا الإجراء، فإن ما يعنينا أن هذه الشركات ترى أن هذه المراكز قادرة على تقديم الخدمة، وإلا لما سعت إلى استئجارها، وأن هذه الشركات ستستفيد من هذه المراكز أكثر من استفادة المراكز من الشركات، ذلك أن مراكز الغسيل الكلوي الحالية تعتمد في تشغيلها بشكل كبير على المستشفيات التي تقع ضمن نطاقها.. وللمزيد من الإيضاح، فإن من الحقائق المعروفة أن مرضى الفشل الكلوي النهائي لا يشكلون سوى نحو 5% من مجموع حالات القصور الكلوي الذين يقدر عددهم في الوقت الحاضر بنحو 450 ألف مريض، وهؤلاء المرضى يحتاجون إلى متابعة دقيقة ومنتظمة بإجراء الفحوصات وصرف العلاج المناسب قبل أن يصلوا إلى مرحلة الفشل النهائي التي يحتاجون فيها إلى الغسيل.. وهذه المتابعة تتم في المستشفيات وليس في مراكز الغسيل، كما أن معظم هؤلاء المرضى يعانون من مشاكل صحية مصاحبة كارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والشرايين واضطرابات الغدد الصماء وغيرها، وكل ذلك يتابع في المستشفيات، فضلا عن الحالات التي تتعرض لأوضاع طارئة، والتي لا يمكن علاجها إلا في المستشفيات؛ لذا فإن ارتباط هذه المراكز بالمستشفيات هو ارتباط عضوي تمليه طبيعة المشاكل الصحية التي يعاني منها هؤلاء المرضى واحتياجاتهم المتنوعة، والتي لا قبل لمراكز الغسيل الكلوي بالتعامل معها. 2 نعلم جميعا الجهود الضخمة والمبالغ الكبيرة التي أنفقتها الدولة على مدى السنوات الماضية لتشييد وتطوير العديد من مراكز الغسيل الكلوي، حتى بلغ عددها أكثر من 182 مركزا بنهاية عام 1434ه تخدم نحو 15 ألف مريض، كما قامت بتوفير أحدث أجهزة الترشيح الدموي والبريتوني والأجهزة الأخرى، وتوفير كميات كبيرة من الأدوية والمستهلكات ما زالت تكتظ بها مستودعات المستشفيات ومستودعات التموين الطبي بالوزارة.. فما هو مصير هذا المخزون الضخم من هذه المواد إذا كانت الشركات الأجنبية ستقوم بتوفير كافة الأجهزة والمستهلكات والأدوية؟ ثم ما هو مصير المراكز الحالية التي لن يتم استئجارها من قبل الشركات، وهل ستستمر في تقديم الخدمة، أم أنها ستتوقف عن العمل ويهدر جميع ما فيها من أجهزة وأدوية ومستهلكات؟ والأهم من ذلك، ما هو مصير مئات الأطباء والفنيين والإداريين الذين استثمرت الدولة مئات الملايين في تعليمهم وتدريبهم للعمل في هذا المجال الحيوي على مدى سنين طويلة، حيث تنص العقود الأخيرة على أن الشركات الأجنبية ستتولى تشغيل هذه المراكز بطواقم طبية وتمريضية تابعة لها دون الاستعانة بكوادر الوزارة، فهل سيتم الاستغناء عنهم أم توجيههم للعمل في مجالات غير مجال تخصصهم؟ ولعل الصورة تبدو أكثر قتامة عندما نتحدث عن مركز الأمير عبدالمجيد يرحمه الله لأمراض الكلى بجدة، ولأولئك الذين لا يذكرون قصة هذا المركز نقول إن فكرة إنشاء المركز نبعت أساسا من أعضاء الدائرة الاقتصادية الاجتماعية بإمارة منطقة مكةالمكرمة؛ ليكون مركزا بديلا للمركز القديم الذي أنشئ عام 1410 ه، واشتمل على 75 جهازا للتنقية الدموية، واستطاع خلال 25 عاما خدمة 600 مريض من مرضى الفشل الكلوي وإجراء نحو 2.34 مليون عملية غسيل كلوي، في حين أن تكاليف إنشائه لم تتجاوز 2.5 مليون ريال، ولم يعد صالحا أو قادرا على تقديم خدماته بسبب قدم مبانيه واستهلاك معداته.. وقد تبنى سمو الأمير عبدالمجيد يرحمه الله الفكرة ودعمها بقوة.. وشكلت لجنة إشرافية عليا برئاسة الأمير عبدالعزيز بن سلمان لمتابعة تنفيذ المشروع الذي قدرت تكاليفه ب40 مليون ريال.. وقد شارك عدد من الخيرين بالتبرع للمشروع وتم توفير جزء كبير من المبلغ وتولت وزارة الصحة توفير الباقي.. وبعد اكتمال الأعمال الإنشائية للمركز، وفي الوقت الذي كان الجميع في انتظار الإعلان عن تشغيل المركز حسب ما خطط له فوجئوا برغبة الوزارة في تأجير المركز لشركات أجنبية.. الأمر الذي طرح العديد من التساؤلات حول هذا الإجراء ومدى قانونيته وهل تم التشاور مع المتبرعين والحصول على موافقتهم؟ وهل قبلوا أن تنتهي مساهماتهم التي قصدوا بها الأجر والثواب إلى مشروع تأجير على شركات أجنبية؟ ثم ما هو مصير الكفاءات المدربة من أطباء وفنيين وإداريين الذين اكتسبوا خبرات عالية على مدى سنوات من العمل في المركز القديم، وما هو مصير الأجهزة الطبية والمعدات والأدوية والمستهلكات التي كلفت الدولة ملايين الريالات؟ أو لم يكن من الأولى والأكثر منطقية أن يجري تشغيل المركز الجديد بما هو متوفر حاليا من قوى بشرية مدربة وأجهزة ومعدات مع استكمال النواقص، بدلا من إهدار كل هذه الأموال والكفاءات وتأجير المبنى لشركة أجنبية، ومما يزيد الأمر غموضا وغرابة هو ما أعلن عنه من أن هذه العقود سترفع من تكلفة خدمات الغسيل الكلوي التي تتحملها الوزارة إلى ثلاثة أضعاف تكلفتها الحالية، حيث ستقفز تكلفة الجلسة الواحدة من 450 ريالا (غير شاملة للدواء) إلى 1400 ريال (شاملة الدواء) (صحيفة الشرق في 22/8/2013 م). 3 على وقع هذه البيانات الصحفية تطالعنا الأخبار بمكرمة ملكية جديدة لمرضى الكلى تتمثل في مشروع مؤسسة خادم الحرمين الشريفين العالمية للأعمال الإنسانية لرعاية مرضى الكلى بتأمين ألف جهاز للغسيل الكلوي لخدمة 5 آلاف مريض، الأمر الذي يعني أن هذا المشروع العملاق، والذي بدأت مراحل تشغيله بالفعل دون ضجة إعلامية ودون عقود مليارية يمثل رافدا مهما وإضافة قيمة سيكون لها دور فعال في تخفيف معاناة عدد لا يستهان به من مرضى الفشل الكلوي.. فهل وضعت وزارة الصحة ذلك في حساباتها.. وهل جعلت له حيزا ضمن خططها الحالية أو المستقبلية؟. على أننا إذا تحدثنا بلغة الأرقام المجردة لنستشرف ما ستؤول إليه الأوضاع بنهاية السنوات السبع المشمولة باتفاقيات وزارة الصحة (خمس سنوات) ومشروع مؤسسة خادم الحرمين الشريفين العالمية لرعاية مرضى الكلى، لوجدنا أن العدد الحالي لمرضى الفشل الكلوي في المملكة يصل إلى نحو 15 ألف مريض، تتولى الوحدات والمراكز التابعة لوزارة الصحة إجراء الغسيل الكلوي لنحو 8500 مريض منهم، بينما يتوزع الباقون على بعض المنشآت الصحية الحكومية الأخرى (2400 مريض)، والقطاع الخاص (2200 مريض)، وجمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية «كلانا» (800 مريض)، فإذا وضعنا في الاعتبار الزيادة السنوية المتوقعة في أعداد مرضى الفشل الكلوي، والتي تقدر بنحو 7.5%، فإن ذلك يعني أن عدد مرضى الفشل الكلوي سيصل عند نهاية السنوات السبع إلى نحو 24 ألف مريض، فإذا كانت عقود وزارة الصحة ستوفر خدمة الغسيل الكلوي لنحو 10 آلاف مريض يضاف إليهم 5 آلاف مريض سيستفيدون من مشروع مؤسسة خادم الحرمين الشريفين، فإن ذلك يعني أنه سيكون هناك نحو 9 آلاف مريض بحاجة إلى الغسيل، إما بواسطة المنشآت الصحية الحكومية الأخرى، أو القطاع الخاص أو الجمعيات الخيرية، وكما أسلفنا فإن هذه الجهات مجتمعة توفر الخدمة حاليا لنحو 5400 مريض، ما يعني أنه سيكون لدينا قرابة 4 آلاف مريض لا يعرف مصيرهم ولا كيف سيتم توفير احتياجاتهم من الغسيل الكلوي، أي بعبارة أخرى أن كل هذه العقود المليارية عند اكتمال تنفيذها لن تكون قادرة على تلبية حاجات مرضى الفشل الكلوي، كما يحاول المسؤولون في وزارة الصحة الإيهام بذلك.. وكان من الأجدى والأكثر منطقية لو أن الوزارة قامت بدعم المراكز القائمة فعلا ببعض الإمكانيات الإضافية، وعملت على تشغيل الجديد منها بواسطة الكفاءات الموجودة فعلا مع تعويض النواقص في القوى العاملة والمعدات.. وتكون بذلك قد وفرت مليارات هي في أمس الحاجة إليها لتحسين أوضاع المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية التي أصبحت تئن تحت وطأة الضغط الواقع عليها.. وتوفير مزيد من أسرة التنويم وأسرة العناية المركزة التي أصبح شحها يمثل كابوسا مخيفا ومأساة يومية يعيشها المرضى وذووهم الذين يجبرون على البقاء في أقسام الطوارئ وممرات المستشفيات لأيام عديدة لعدم توفر أسرة لتنويمهم، ويفقد الكثير من زهرة شبابنا أرواحهم نتيجة تأخر علاجهم وعدم توفر أسرة عناية مركزة لاستيعابهم، علاوة على حاجة الوزارة الماسة إلى تطوير البرامج التدريبية والوقائية والتوعوية وإجراء الدراسات والأبحاث العلمية التي تهدف إلى اكتشاف العوامل التي تؤدي إلى الإصابة بالفشل الكلوي في مجتمعنا، بحيث يمكن التعامل معها والتخفيف من آثارها وتنفيذ برامج شاملة تسهم في الحد من انتشارها، بدلا من التركيز فقط على التعامل مع النتائج النهائية المتمثلة في الفشل الكلوي. وأخيرا وليس آخرا، فمن الأهمية بمكان أن يدرك المسؤولون في الوزارة أن توقيع هذه العقود لن يزيح عن كاهل الوزارة العديد من الأعباء الإدارية المتمثلة في الإشراف والمتابعة وتشكيل اللجان المركزية والمحيطية في المناطق المختلفة ومراقبة الجودة وغير ذلك، وبالتالي لن يعفيها من المسؤولية في حال حدوث أي قصور.. كما أن الاعتماد الكلي على مصدر خارجي واحد لتوفير خدمة حيوية كخدمة الغسيل الكلوي لا يخلو من مخاطر ومحاذير وينطوي على قدر من المجازفة في حال إخلال الطرف الخارجي بواجباته أو عجزه عن الوفاء بالتزاماته لأي سبب من الأسباب. إن خطة الوزارة لشراء خدمة الغسيل الكلوي تجعلنا نتساءل عن الأسلوب الذي تنتهجه الوزارة في التخطيط الاستراتيجي لسياساتها وأهدافها وطريقة ترتيب أولوياتها.. ويطرح بقوة العديد من علامات الاستفهام حول التنسيق بينها وبين الجهات ذات العلاقة والدور الذي يلعبه مجلس الخدمات الصحية في هذا الإطار.. ولعل من المفارقات الغريبة أن أحد أهم الأجهزة المعنية بهذا الجانب، وهو المركز السعودي لزراعة الأعضاء الذي يتولى تحديد احتياجات مرضى الفشل الكلوي، ووضع ومتابعة تنفيذ السياسات الخاصة بعلاجهم استنادا إلى نتائج الدراسات الميدانية، بالإضافة إلى جمع المعلومات الإحصائية عنهم وتبويبها فيما يعرف بالسجل الوطني لمرضى الفشل الكلوي.. هذا المركز جرى حسب معلوماتي استبعاده من عضوية اللجان التي شكلتها وزارة الصحة لدارسة أوضاع مرضى الفشل الكلوي.. والتي أثمرت دراساتها توقيع هذه العقود مؤخرا. إننا حينما نناقش هذه المعطيات ونسلط الضوء على الجوانب المغفلة في هذه العقود، فإننا لا نرمي للإساءة إلى أحد أو التقليل من جهود المسؤولين في وزارة الصحة، بقدر ما هي محاولة منا لسبر الأغوار والتعرف على رؤية المخططين في الوزارة حيال أسلوب معالجة أهم المشاكل الصحية في مجتمعنا علنا نجد في تجاوبهم ما يسهم في إيضاح الصورة، وذلك إيمانا منا بأن من حق كل مواطن معرفة الطريقة التي تدار بها مرافقه الحيوية، وأن يحصل على إجابات مقنعة تعيد ثقته التي اهتزت بفعل تراكمات عديدة من الممارسات العشوائية والقرارات غير المدروسة على مدى السنوات الأخيرة.