للشاعر العباسي الطغرائي قصيدة لامية عصماء جرت على ألسنة الرواة على مدى ما يزيد على ألف عام حتى سميت «بلامية العجم» نسبة لقائلها مقابل لامية العرب للشاعر الشنفرى، وتعتبر لامية العجم التي تقارب أبياتها ستين بيتا مزدهرة بالمعاني الجميلة والحكمة وعمق التجربة في الحياة وقد قرأتها عشرات المرات وأعجبني أكثر ما فيها من أبيات الحكمة ومنها قوله: حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا ... في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل ودع غمار العلا للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهن بالبلل إن العلا حدثتني وهي صادقة ... في ما تحدث أن العز في النقل وبعد ذلك نرى الطغرائي ينتقل إلى تصوير ما آلت إليه أحواله من إدبار الدنيا عنه وإقبالها على الجهال من قومه فيقول: أهبت بالحظ لو ناديت مستمعا ... والحظ عني بالجهال في شغل لعله إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عنهم .. أو تنبه لي أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل لم أرتض العيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل ويستمر الطغرائي في تحسره على ما فاته من جاه ومال على الرغم من تفوقه وذكائه وأصالته غير معترف لمن تقدموا عليه بفضل أو موهبة أو مكانة ولكنه ينسب ما حصل له ولهم أنه أبطأ في السير وسارعوا فيه.. فيقول: تقدمتني أناس كان شوطهم ... وراء خطوي لو أمشي على مهل هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل ثم تبلغ بالشاعر مشاعر الإحباط وفقدان الثقة فيمن حوله إلى الحد الذي أخذ يحذر فيه غيره من المقربين إليهم أو الموثوق بهم أو الاعتماد عليهم حيث يقول: أعدى عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل فإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شرا وكن منها على وجل ويفسر الطغرائي موقفه المتشائم من الحياة والأحياء بأنه لم ير إلا الجحود والنكران والغدر مجسدا ذلك كله في قوله: غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل وشان صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابق معوج بمعتدل ثم يلتفت إلى نفسه فيحدثها حديثا يائسا موجها لكل بائس حيث يقول : يا واردا سؤر عيش كله كدر ... أنفقت عمرك في أيامك الأول ترجو البقاء بدار لا ثبات لها ... فهل سمعت بظل غير منتقل ويا خبيرا على الأسرار مطلعا ... اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل. وقد رحل الطغرائي إلى بارئه وأفضى إلى ما قدم وترك لنا هذه الخريدة العصماء .. نرددها فنستفيد أو لا نستفيد منها!!.