خاطب وساقته إليك فضول.. فامنن بإيجاب له وقبول.. إني إلى الخمس التي رشحتها.. ألقي بما ملكت يداي أجول.. هي مكة.. هي بكة.. أم القرى.. البلد الأمين معاد والمأمول.. فالقلب غنى حسنهن معازف.. قد لحنتها للغناء طبول.. مطلع قصيدة عبقة عزفها على أوتار الشجن اللواء عبدالقادر محمود مغربي كانت تحية الجمعة على صفحة جريدة ((البلاد)) العتيقة.. كتبها بإحساس رهيف.. شعرت بابتهاج وحنين إلى مكة شيء ما في أبيات القصيدة أعادني إلى طفولتي وصباي حيث قضيتها في مكة لا أعرف هوى ولا هوية غيرها مهما غادرت أو بعدت عنها.. دفعني الشوق إلى أن أهرول إلى مكة قبل الصباح تسير بي العربة أصل إلى شرطة أم الجود ينظر شرطي مهذب إلي يطابق صورتي بالإحرام مع ماهو في رخصة القيادة .. ورافقتك السلامة.. الفجر يشف في سماء وردية مكللة بغلاله من الضباب الصباحي الخفيف الساقط من جبال مكة.. مكة تحت ضوء الفضة.. الشوارع ساكنة نائمة لم يوقظها الضجيج بعد.. حمام يطير بأسراب انشراح ويحط قرب الكعبة.. كل ما حولي يوحي بالشجن.. كأن مكة تتعاطف مع نفسي كأنها تدرك مقدار محبتي لها.. وقع خطوات المعتمرين فوق المرمر الصقيل.. تطير حمامة فوق رأسي توقظني من الهيام.. أبعدها عني.. ابتسم بهدوء ابتسامة من ذاق السعادة الأبدية.. أجدد وضوئي أتوضأ من زمزم من رأسي إلى قدمي أشعر أنني خرجت من الماء بطهارة كاملة كأني أنسلخ من جلد قديم ضاق على جسدي.. يتوضأ معتمر بجانبي فأسمع سقسقه ماء زمزم.. أمر بنيام يغفون في المسجد تحت سماء رحمة واسعة وآخرون يدعون ببحة غليظة مبللة بدموع تفتك الروح.. تتماوج بين العلو والانخفاض.. هناك من يقف يؤدي صلاته لتحية المسجد في سكينة وخشوع واتزان كأنه يحمل الله في قلبه.. كأن الدنيا هنا مكان واحد، والبشر أكثر من إخوة متشابهين.. تصاعد صوت الأذان الله أكبر الله أكبر.. يملأ الصوت العذب فضاء مكة بالإيمان والخشوع .. مدينة تتوضأ كل يوم بصلاة الفجر لا يفارقها الإيمان.. تنتهي الصلاة، وتستيقظ مكة.. يستيقظ كل من حولها.. أذهب إلى ((المعلاة)) أشتري مروحة من سعف النخل من عجوز كانت تفترش الأرض.. لم يكن هناك سبب واضح لشرائها.. قد يكون الحنين للقديم لا أكثر.. أستمر في السير، أحمل فوق رأسي الماضي بكل ما يحتويه من صور.. أمسح بكفي دمعة فرت غصبا عني وألجمت خفقان حسرة جاشت بافتقاد أماكن وصور وديار.. عواطف تختلط بداخلي.. أقترب من ((المعلاة)) حيث رقعة ألم تأخذ شكل قبر.. أهرب إليه مما في نفسي.. أشعر بحزن يجثم علي كما الرحي.. أنظر إلى القبر عبر جفون مهدلة كثوب مغسول.. أسمع القلب يعصر نفسه.. أحتضن التراب كأمير أفرغه الحزن من هيبته.. الثمه بالقبل.. أشعر باختناق.. أغيب في صمتي.. أتمنى أن ينكشف القبر وأرى وجهها ولو لنظرة واحدة.. أرجع للوراء وأهتف لا مكان لي في دنيا لا تتواجدين أنت فيها.. لا مكان لي في دنيا لا تحتوي على رائحتك.. ألتفت إلى السماء أردد هامسا.. همس من يمضي قبل اتمام الوصية.. أناشد خالقي كففت دمعي عن الناس لتراه وحدك.. كبتها في نفسي كي لا يعلمها غيرك.. اللهم يا غافر الذنوب أغفر لها مغفرة من عندك وارحمها أنك أنت الغفور الرحيم، اللهم أعني على فراقها وأجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي.. اللهم ارحم أمي ((نورة)) واجعل الإيمان نور قلبي وارحم أموات المسلمين إنك علي كل شيء قدير.. أعود إلى جدة أمر بمدرستي التي كان كل شيء فيها يدعو لاغتراف السعادة تمر بي تفاصيل دقيقة ومتشعبة أحفظها غيبا تضحك أمامي وترشيني باستعادتها أتذكر أساتذة أجلاء تركوا لنا في الذاكرة محبة المطر جمعوا بين العنف والرقة كانوا رقباء مؤتمنين علينا وعلى العالم المحيط بنا حيث كنا كالطيور التي تقف على سلك كهربائي لا تعي خطورته.. كانوا فريقا يلتقي في المعنى والروح والهدف.. أتذكر كل واحد منهم مثل ما أتذكر الأشياء الحلوة في الفم.. أعود إلى المجموعة التي خلفتها الأيام وراءها رفاق كثر كانت أيدينا تتشابك كل صباح كجزور العشب المعطر.. جمعنا سور المدرسة العزيزية وفرقنا زمن وكبرت المساحة بيننا وتباعدت الأجساد وأصبح من الصعوبة على الإنسان أن يرى من يريد أن يراهم منهم.. لم تمح صورة الدفعة التي تخرجت معها من ذهني طوال كل السنين تتداعى صورهم وتتزاحم لمجرد ذكر أحدهم.. أيام جميلة رحلت وتحولت إلى ماض بغمضة عين إلا أنها تظل القلب والروح والجسد والمكان والذكرى التي لا يستطيع الإنسان البقاء خارجها وإلا ضاع!!