هل يمكننا أن نعد معرض الكتاب عاملا مهما ورئيسا -من بين عوامل متعددة- لما يشهده مجتمعنا السعودي من حراك ثقافي واجتماعي وحقوقي؟!.. هذا الحراك المتشعب في أكثر من اتجاه، والمتجلي عبر أكثر من قناة إعلامية كلاسيكية أو جديدة، مرورا بأحاديث المجالس والمقاهي والاستراحات التي يتبادلها الأصدقاء والزملاء بشكل معتاد ويومي ضمن نقاشاتهم و «سواليفهم»، ودردشاتهم. أحاديث الرجال والنساء والشباب والفتيات والطلاب والطالبات. تلك الفئات التي لم يكن وعي معظم أفرادها يمتد لأبعد من هموم الحياة ويومياتها، ولم يكن يستولي على اهتماماتهم أكثر من التفكير في كل ما يقتل الوقت ويمرره هادئا وممتعا والتخفيف من ثقل الروح المنهكة بالفراغ!، حتى أصبح التفكيك وإعادة النظر في المسلمات الاجتماعية والتقاليد القيمية ومساءلة كل ما ارتكز في الوجدان الفردي والجمعي ملمحا بارزا وعلامة ظاهرة تتبدى في العقل السعودي الفردي والجمعي. أحسب أن لمعرض الكتاب الدولي منذ انطلاقته بالتناوب بين الرياضوجدة قبل عشر سنوات تقريبا إلى أن استقر في الرياض قبل بضع سنوات دورا محوريا في كل ما يمور به المجتمع السعودي من حراك متوقد، كما في مختلف التحولات التي مرت وتمر بالمجتمع السعودي على الصعيد الثقافي بالمفهوم الشامل للثقافة. ولذا فلا غرابة في أن يكون معرض الكتاب مناسبة سنوية تثير تناقضات حادة؛ فتبعث ضجيجا صاخبا، واحتقانا متشنجا، واحتفاء مورقا. وإلى ذلك كله يظل معرض الكتاب بالرياض أهم منجز لوزارة الثقافة والإعلام وللثقافة السعودية بشكل عام. انتهى مؤخرا معرض الكتاب، وانطوت بنهايته صفحات وانفتحت أخرى، كما هي الحال في كل عام، إذ إن إثارة المعرض تبدأ قبل موعده بأسابيع ولا تنتهي قبل أسابيع أخرى من نهايته، هنالك أقوام يرون في المعرض أكبر مشروع تغريبي للبلد وأبنائه، وأشرس أداة من أدوات هدم الثوابت الدينية والقيم الخلقية، ونشر الكفر والتعدي على المقدسات، ويبدأ هؤلاء في التحذير منه والوصاية على عقول مرتاديه قبل موسمه بفترة طويلة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يمارسون وصايتهم تلك بحملات أو غزوات ميدانية متشنجة على دور النشر في محاولة لإثارة المرتادين والدعوة على سحب بعض كتب الكفر والإلحاد، وممارسة الاحتساب بكافة أشكاله التعسفية، على الكتب وعلى زوار المعرض من النساء والشباب!. وبرغم وجود جهات رسمية مسؤولة عن هذا الشأن إلا أنها بالإضافة إلى إدارة المعرض الرسمية لم تستطع إلى الآن الحد من هذه الممارسات الممجوجة وإيقاف درباوية المعرض عن مثل تلك المبادرات غير المسؤولة، التي أصبحت سمة ملازمة لمعرض الرياض في كل عام!.. صحيح إنها لم تعد بتلك الفجاجة التي رأيناها قبل سنوات، لكنها مازالت موجودة، وإن كانت وسائل الإعلام لم تركز أضواءها عليها بشكل كبير هذا العام، ربما كان ذلك التجاهل الإعلامي بقصد التخفيف من انتشار أخبارها وتحجيم آثارها. لكن ما ذنب مرتادي المعرض الذين سافر أكثرهم من أطراف المملكة لشراء الكتب واقتناء الجديد منها في أجواء هادئة ومستقرة؟!، لاسيما أن الزحام الخانق يستهلك قدرا كبيرا من الطاقة والتركيز، فكيف إذا أضيف إلى ذلك تجمهر وصراخ واستصراخ باسم التدين والغيرة على حرمات الله، والأمر لا يعدو كونه شكلا من أشكال الوصاية المقيتة على العقول!. قزع في معرض الكتاب! في آخر أيام المعرض كنت أقف في طابور متوسط الطول يمتد أمام بوابة الدخول، وإذ بي أفاجأ برجال الأمن يمنعون شابين مراهقين من الدخول بحجة أن في شعرهما ما يسمونه بالقزع! علما بأن شعر الفتيين غير طويل ولا ملفت للنظر، قلت لرجل الأمن لا تمنعهما، دعهما يدخلان ليستفيدا، فهما قادمان لمعرض كتاب وليس إلى مجمع تجاري أو غيره. أجابني بأنه ينفذ التعليمات!!، أي تعليمات هذه التي تمنع الناس من التجول في معرض للكتب؟. والسؤال الأهم: من الذي أصدر هذه التعليمات؟، هل هي إدارة المعرض .. أم غيرها ؟، أم هي جهة أخرى أوعزت للقائمين على الإيوان الثقافي بفندق الماريوت بوضع قفص من الأرابيسك ليحيط النساء الحاضرات من أربع جهات؟!!. يشتكي التربويون والمثقفون من انصراف الشباب والأجيال الجديدة عن الثقافة والقراءة، وهاهم الآن يقصدون معرض الكتاب فيجدون المنع بحجج واهية وأسباب وهمية ليس أكثر!، الموقف الذي حكيته عن الشابين ليس حالة فردية، فالجميع قد رأى عددا كبيرا من الشباب من مختلف الأعمار يقفون أمام بوابات المعرض المختلفة محبطين من منعهم من دخول المعرض، بل حصل أن شاعرا معروفا تباع كتبه داخل المعرض قد منع من الدخول لأن شعره طويل!! .. إلى متى تستجيب إدارة المعرض والجهات المعنية لمثل هذه الضغوط من جهات معروفة؟، لاسيما أنها قوانين ليس لها معنى ولا تنطوي على أي منطق. بل تسيء إلى هذا المشروع الحضاري الكبير، وتحرج البلد وأهله وثقافته وتقاليده العريقة في الكرم وحسن الضيافة مع الزوار العرب والأجانب. ولم يتبق إلا أن تعلن قائمة من الضوابط تبين الممنوع والمسموح به في أشكال زوار المعرض ولباسهم وشعورهم ونوع أحذيتهم!. كتب غالية ومعرض مستأجر!! كنت أظن أن المعرض بوصفه ممارسة حضارية كبرى يلقى أنواع الدعم والتسهيلات في سبيل قيامه بدوره التنويري والفكري في كل عام، لكن المعلومة التي عرفتها بالصدفة عن استئجار الوزارة لموقع المعرض بشكل سنوي كانت صادمة جدا، وليس لنا حين معرفتها أن نستنكر غلاء أسعار الكتب المبالغ فيه لدى دور النشر التي تحضر في معرض الرياض، فهم معذورون تماما في محاولتهم تعويض خساراتهم البالغة التي تكبدوها لحجز بضعة أمتار في مساحة معرض الرياض المستأجر!. يحز في نفوس السعوديين كثيرا ويرهق ميزانياتهم حين يحضرون معرض الرياض فيجدون الكتاب ذاته بضعف سعره في معرض الشارقة أو غيره من المعارض!، وما ذاك إلا بسبب غلاء إجار الموقع، بالإضافة طبعا إلى نسبة جشع لدى إخواننا من الناشرين، جعلت بعضهم في هذا العام يزيد في الأسعار المثبتة في جهاز البحث بنسبة عشرة أو عشرين بالمئة!!. تسويق الهشاشة والسطحية! لا يزال النجوم من الكتاب والمؤلفين هم الأكثر جذبا للقراء والمشترين وكتبهم هي الأكثر مبيعا، حتى لو كانت فارغة المحتوى أو فارغة الصفحات تماما (على طريقة الكتاب الأبيض)!، النجوم القادمون من محيط الفن أو الشعر الشعبي أو نجوم الدعاة والواعظين ونجوم الإعلام والبرامج الحوارية في القنوات العربية الكبيرة هم أكثر الناس مبيعا، وإذا مان لأحدهم دار نشر فمبيعاتها ربما تتجاوز مبيعات بقية الدور الأخرى مجتمعة!، وما ذاك لقيمة فكرية أو طرح معمق تقدمه منشوراتها، بل يكون الإقبال ويتزايد على حس هذا النجم أو ذاك، كما هي الحال مع (الإسلام اليوم) و (مدارك) على سبيل المثال، الذي يكفل لها تسويقا بمجرد وجود اسمها على غلاف أي كتاب!، بعض المثقفين في بهو الماريوت الشهير، رمى بعض الدور بأنها تسوق الهشاشة والسطحية، وتحمل قدرا كبيرا من إثم الأمية الثقافية التي يعاني منها البعض في مجتمعنا!. ضيف الشرف.. يظل ضيفا! اعتاد المعرض وطبقا لتقاليد المعارض الدولية العريقة في العالم على استضافة بلد من بلدان العالم ليكون ضيف المعرض، ويفترض في المعرض وبرامجه المصاحبة أن تقدم ثقافة البلد الضيف وتقاليده ومسرحه ورقصاته بالإضافة إلى التقاء القارئ السعودي/ العربي بمثقفيه وكتابه المشاهير الذين ترجموا أو لم يترجموا، وأن يكون هذا المعرض منطلقا لمشاريع ثقافية مشتركة في الترجمة والتفاعل الثقافي المتنوع، لكن شيئا من ذلك لا يحدث لدينا، وكانت اسبانيا ضيفا خفيف الظل وخفيف الحضور في المعرض، كما هي حال ضيوف المعارض السابقة من السنغال أو غيرها!. توقيعات تقليد شهير في معارض الكتب، ولا اعتراض عليه، لكن أن يتم توقيع أكثر من عشرين كتابا في يوم واحد من أيام المعرض فهذه مبالغة فارغة، ولم أجد لها مبررا منطقيا واحدا، العجيب أن عددا كبيرا من أصدقائنا المثقفين والمثقفات يحرصون على الطباعة قبل المعرض بفترة وجيزة حتى يوقعوا كتبهم في المعرض، حتى ولو لم يحضر توقيعهم أكثر من عشرة أشخاص، بعضهم من لجان المعرض!. جناح الأندية الأدبية.. فوضى ! عاما بعد عام تسوء حال إصدارات الأندية الأدبية ومطبوعاتها المعروضة عبر مشاركتها في معرض الكتاب بالرياض، وعاما بعد عام تتقلص المساحة المخصصة للأندية الأدبية الستة عشرة إلى أن صارت بضع مترات هذا العام، حين مررت بجناح الأندية وجدت مندوبين عن نادي الرياض وعاملا من إخوتنا البنغاليين، تسأله عن كتاب فيجيبك «هنا فيه سوف دور انتا، أنا ما في معلوم أربي»!!. تختلط إصدارات الأحساء بجدة بالجوف بأبها والباحة، تتراكم فوق بعضها، ويتهاوى بعضها إلى الأرض، عجيب موقف وزارة الثقافة من أنديتها الأدبية، وكأنها تتبرأ من إصدارات أنديتها ولا تعترف بها أو بقيمتها المعرفية أو الثقافية! فهي تحشرها في ركن صغير جدا يتضاءل عاما بعد عام!!. أم لأنها -أي الأندية- لا تدفع رسوما مقابل المساحة التي تحتلها من موقع المعرض؟!. قنطرة حضارة! هذا الشعار الذي اتخذته إدارة المعرض لهذا العام، برغم كلاسيكيته في الصياغة والفكرة، إلا أنه يتجسد في ذلك المنظر البهيج الذي تراه حين تزور معرض الكتاب، وترى كل أبناء الوطن وبناته في سياحة ثقافية وعرس معرفي مفتوح، برغم كل التوتر والمنغصات إلا أنه المعرض الأقوى والأكثر إثارة وتأثيرا و... مبيعات!. نأمل جميعا أن يتطور هذا المشروع الجبار، وأن يستمر في تألقه معرِضا عن كل المحاولات غير المسؤولة، وأن يتجدد دوما وأبدا وصولا إلى العالمية الحقيقية وليس من خلال المبيعات فحسب!.