المقاتل «مهندوف».. وأثناء حوارنا معه، التزم الصمت فجأة، ووقف عن الكلام دقائق، ذلك لأنه استذكر لحظة عودته ودخوله إلى البيت، ومشاهدة أمه بعد هذا الغياب المر، الغياب الذي منحه أطول فترة يعيشها داخل أحضان أمه، وليس في ذاك العناق صوت غير النحيب، ولا ماء غير الدموع. في هذه الحلقة الأخيرة.. يفضح مهندوف حقائق مخجلة عن المقاتلين، فهو طوال تلك الأيام كان يصلي وحده، في كتيبة لم ير فيها صلاة ولا عبادة، وإذا جن الليل انعزل بعض عناصر الكتيبة في شقة بالطابق الأرضي للمقر، بزعامة قائدها، لا صوت يصدر غير الأغاني، ولا روائح تنبعث غير الدخان.. ومع كل هذا فإنه لا يرى غير اللحى، ولا يقرأ في المداخل غير الآيات القرآنية والعبارات الجهادية. يروي مهندوف تفاصيل دقيقة لمحاولة إقناعه الجيش التركي الذي عامله كأنه «لاجئ سوري»، ليسمح له بالدخول، كما يكشف قصة تواصله بسفارة المملكة في أنقرة، بينما كان أول مشروع نفذه بعد بلوغه مرحلة الأمان هو «حلق اللحية». • نستأنف الحكاية.. بعد أن تعامل معك الجيش التركي كأنك «لاجئ سوري».. وصرت الآن داخل الأراضي السورية في مخيم للاجئين.. ماذا فعلت؟ - بعد أن أنزلنا الجيش التركي على الشريط الحدودي، ووقعنا على ورقة بأن دخولنا الأراضي السورية جاء بمحض إرادتنا، وألزمنا بالدخول إلى الأراضي السورية، صرت أمشي مع السوريين في طريقهم إلى المخيم، وهناك سألت الشباب والمسنين «ايش اللي صاير؟ كيف نرجع»، فطمأنني أحدهم في إجابته «إن شاء الله نرجع، ولكن الجيش التركي أحيانا يحكم الحدود بشدة وأحيانا يتغاضى ويسمح بدخولنا»، فتساءلت عن الحل للخلاص مما أنا فيه، فقال «ما لك إلا تصبر شوي، ساعة أو ساعتين، بس يروحوا العساكر»، إذ كانت عناصر الجيش التركي منتشرة بكثافة على الحدود، وكنت أعيش تلك اللحظة بحالة من الخوف والهلع، باعتبار أنني سأكون في يد النظام بأي وقت لطالما أنني داخل الأراضي السورية، فرصدت سيارة للإغاثة خلف الشبك (السياح الحدودي)، أي داخل الأراضي التركية، وهو سياج ليس ممتدا على طول الحدود، إنما أشبه ببوابة بين شجرة وأخرى، فذهبت إلى السياج وتحدثت من خلفه لأحد أفراد الجيش التركي، لكنه لم يتجاوب معي نهائيا، فقال لي أحد السوريين اللاجئين إن هؤلاء لا يفهمون كونهم لا يتحدثون اللغة العربية، فأشار إلي بالذهاب إلى مسؤول الإغاثة فهو يتحدث العربية، فذهبت إليه وكان شابا، وشرحت له وضعي، وقلت له «أنا سعودي، ووضعي واحد اثنين ثلاثة...». • ماذا في «واحد اثنين ثلاثة».. هل صارحته بأنك ذهبت للقتال مثلا؟ - نعم، شرحت له حالتي تماما، وصارحته بأنني جئت للقتال، وأن الصورة اتضحت لي، وأنا بحاجة للعودة، فقال لي «اصبر شوي أنا بأكلم العسكر، يمكن يتغاضون عنك»، فذهبت وشاهدته يتحدث معهم باللغة التركية، فعاد إلي، وأنا في حالة أعد في خطواته، لا أدري ماذا يحمل من توجيه، فجاء إلي، ومد لي يده من خلف السياج، وناولني خبزا وحليبا وماء، وقال لي «اشلح الجاكيت» كونه غطاء عسكريا، فأنزلت الغطاء، فقال «امش مع الطريق هذا لحد ما تشوف أفران (تنور) فهناك سيارات توصلك أي مكان»، فمشيت في الطريق، وكان ضيقا بين الأشجار، وهو أشبه بالجادة، وتبدو عليه آثار مشي، حتى وصلت إلى قرية اسمها «ييلداغ»، وبالفعل وجدت منطقة مليئة بالأفران والمخابز، وهناك وجدت سيارات مدنية تركية. • وكيف تنقلك وليس معك أي مبلغ؟ - ليس معي ريال واحد، فتوجهت إلى تلك السيارات، وكانت خمس سيارات ويبدو أنها تعمل في توصيل الركاب، فأول سائق فاجأني بطلاقته في اللغة العربية وبادر بسؤالي «وين رايح؟»، فقلت له أرغب في الذهاب إلى أنطاكية، وإلى هذه اللحظة ما زلت أتوجس خيفة، ولم أشعر بالأمان والاطمئنان، بل أشعر أنني مراقب من كل الاتجاهات، وأنه من المحتمل أن يصل إلي أفراد الكتيبة في ذلك الموقع.. فطلبت من السائق هاتفه المحمول. • وأين هاتفك أنت؟ - أخذه المنسق السوري في الكتيبة، مع جواز السفر الخاص بي وبطاقة الهوية الوطنية وغيرها من أغراضي. • ما نوع هاتفك؟ - بلاك بيري. • أكمل.. ماذا حصل بعد أن طلبت من السائق الهاتف المحمول؟ - ناولني السائق هاتفه، فاتصلت بأخي الثاني وليس أخي الأكبر، فكلمت وشرحت له الوضع كاملا وأوجزت له قصتي. • كم مدة المكالمة التي دارت بينك وبين أخيك؟ - خمس دقائق تقريبا، وأصيب بالذهول والفاجعة بمجرد سماع صوتي، وزاد من فزعه أن علم بأنني معلق قرب الحدود فهو لا يعلم بخروجي للقتال، لا مال ولا هاتف ولا شيء.. فقلت له «الحقني، أنا الآن على الحدود التركية، وليس معي شيء، لا فلوس ولا شيء، غير اللبس اللي ساترني»، فقال لي «اصبر عند السائق 10 دقائق وبأتواصل معك».. فعاد واتصل بي، وأبلغني أنه تحدث مع سفارة المملكة في أنقرة، ولكن الوصول إلى أنقرة يتطلب الكثير من المال.. عندها دبر أخي أمر خروجي من المأزق الذي أعيش فيه، حيث اتصل ب«شيف» تركي الجنسية يدعى «أبو جميل» يعمل في مطعم في الشمال، تحت كفالة ابن خالتي، وكان العامل حينها في إجازة بتركيا، لكننا فوجئنا أن «أبو جميل» يقيم في اسكندرون وليس في أنطاكية، وزودني برقمه في اسكندرون، فاتصلت ب«أبو جميل»، فقال «اعطني السواق اللي معاك»، فناولته الهاتف، وصرت أسمع السائق يتحدث معه باللغة التركية، فأنهى المكالمة، وقال «هذا الشخص موجود في اسكندرون، وأنا بآخذ منك 200 ليرة تركية (337 ريالا)، فقلت له «ما في مشكلة.. بس أنت وديني»، فانطلقنا وبعد ساعة وصلنا إلى اسكندرون، وهناك دخلنا إلى منطقة مزدحمة بالأسواق، وتوقفنا، فاتصل السواق، وبعدها بدقائق جاء «أبو جميل» وأخذني معه.. فاتصل بأخي وأبلغه أنني معه، وبعد وقت وجيز ورد اتصال إلى هاتف أبو جميل من رقم تركي، فأجاب، وإذا به شخص يطلب محادثتي، فناولني أبو جميل الهاتف، تحدثت معه، فظهر أنه مسؤول في قسم شؤون الرعايا بالسفارة، بناء على مكالمة دارت بين أخي والسفارة، فأنا -بصراحة- أخفيت عنه الحقيقة وأبلغته أنني فقدت جواز السفر، ولم أبلغه بأنني ذهبت للقتال، فقال لي هذا الموظف «وينك الآن؟»، فقلت له «أنا في اسكندرون»، فقال «ايش وداك اسكندرون؟ حنا لنا شهر نحذر ما أحد يروح اسكندرون.. فأيش اللي وداك؟»، فقلت له «أنا جاي سياحة»، فقال «ووين ضاع جوازك»، فأجبته «جوازي ضاع بتاكسي، وأنا الآن بدون أوراق، وأبغى أرجع للسعودية». • لماذا أخفيت الحقيقة؟ - بصراحة خفت، فعندما ذهبت في البداية للمركز الحدودي التركي اندفعت على مبدأ «اللي يصير يصير»، بينما بعد الدخول إلى المدن التركية وشعوري بالأمان فكرت في العودة دون كشف الحقيقة.. فوجهني موظف شؤون الرعايا بأن علي الذهاب إلى أنقرة، وزودني باسم وعنوان فندق، تكفلت السفارة بحجز غرفة لي فيه، وقال «أول ما توصل الفندق اعطهم اسمك وهم بينزلونك في الغرفة، والساعة 9 الصباح تجيني في السفارة». • ماذا حصل بعدها؟ - أعطاني أبو جميل مبلغا من المال، وقال لي تسافر إلى أنقرة برا، عبر حافلات النقل، وبالفعل حجزت من اسكندرون إلى أنقرة. • كم أعطاك؟ - أعطاني المبلغ الكفيل بإيصالي إلى السفارة في أنقرة، وتحديدا 100 ليرة تركية. • كم كان الوقت حينها؟ - وقت الظهر.. فذهبت إلى أنقرة، ومن محطة الحافلات توجهت إلى الفندق، وكان قريبا جدا من مبنى السفارة، فدخلت للاستقبال، وبالفعل وجدت حجزا باسمي، نمت في تلك الليلة وفي الصباح توجهت إلى السفارة، وهناك التقيت الموظف، وشرع في إجراءات إصدار «تذكرة مرور» لسفرة واحدة إلى المملكة، فسلمني إياها، وناولني تذكرة سفر من أنقرة إلى الرياض، ومن الرياض إلى منطقتي في شمال المملكة. • متى كان موعد السفر؟ - في اليوم التالي. • عبر أي شركة خطوط؟ - الخطوط التركية. • وطوال هذين اليومين اللذين أمضيتهما في الفندق.. هل شاهدت سعوديين في أرجائه كالبهو أو المطعم؟ - لا، لم أشاهد أي سعودي أبدا. • وأعتقد أنها حانت ساعة العودة إلى الوطن.. نعم، سافرت من اسطنبول إلى الرياض، ومن هناك إلى الشمال، فوجدت إخواني في استقبالي في المطار.. فالحمد لله أنني عدت، بينما هنالك من وصل إلى مرحلة «اللاعودة»، فأنا أعتبر نفسي محظوظا. • ماذا عن لقائك بالوالدة؟ - (هنا لم يرد مهندوف على إجابتي وبقي صامتا). • يبدو أنك سرحت بعيدا؟ - تقريبا.. والله كل ما أفكر.. (صمت قليلا).. الحمد لله على كل حال.. فالتجربة فعلا صعبة، والله يا محمد صعبة جدا، ومهما تكلمت ومهما شرحت فلن أجيد وصف الصورة التي شاهدتها. • صف لنا لقاءك بالوالدة؟ - أول مرة في حياتي أستغرق هذا الوقت الطويل في أحضان أمي، فبمجرد أن عرفت هي بقدومي، وقفت تنتظرني أمام الباب، وفور وصولي أخذتني في أحضانها، وهي تبكي وأنا أبكي، تبكي وأبكي، وبعدها هدأت موجة الدموع، فجلست بجانبي، وقالت «يا ولدي الحمد لله على سلامتك، أنا طول هالفترة أدعي لك دعوة واحدة في كل صلاة وفي كل سجدة وفي كل لحظة، كنت أقول (يا الله.. اللهم أنت تولاه، فلا تجعل أحدا يتولى أمره)». • وماذا قالت هي وإخوانك عندما شاهدوا تغير ملامحك.. وطول لحيتك؟ - (يضحك) أول شيء فعلته بمجرد وصولي إلى اسكندرون ولقائي ب«أبو جميل»، هو الذهاب لأقرب حلاق، حيث خففت اللحية. • أنت تقول إنك عدت خاوي الوفاض، لا هاتف ولا شيء.. فكيف زودتنا بالصور إذن؟ - بعد عودتي اتصل بي أحد الأصدقاء، وقال «وجدت لك صورا في فيس بوك»، وأرسل لي صورة واحدة، فتذكرت فورا أنها ضمن الصور التي التقطناها أثناء جولتي مع المنسق في أرجاء الغسانية، فدخلت إلى فيس بوك، وبالفعل وجدت صورا، يمجدونني فيها بعبارات جهادية، وصوروني بطلا أسطوريا، ويوجهون من خلالها رسائل إلى شباب المملكة، بالسفر إلى سوريا للقتال، ويدعونهم للاحتذاء بي، بمعنى «تعالوا مثلما جاءنا مهندوف».. الأدهى والأمر من هذا أنني وجدت صوري بعد فترة في مواقع وحسابات للنظام السوري، ومكتوب اسمي، ونسبوني إلى كتائب إرهابية، ولفقوا علي التهم، بأنني ارتكبت عدة مجازر.. فاتضحت لي الصورة بأن هذا الشخص المنسق الذي حرضني على الذهاب إلى سوريا، كان ينوي فعلا تسليمي للنظام، بدليل أن هذه الصور وصلت للنظام وكتبوا عليها «فطيسة». • سأوجه إليك جملة من الأسئلة تجيبني فيها بصراحة.. وأنت محاسب أمام الله على الإجابة عليها.. - تفضل. • بالنسبة للمقاتلين الذين التقيتهم هناك، وأقمت مع عناصر الكتيبة أياما وليالي.. هل هم على ظاهرهم من حيث التدين؟ - والله ما شفت أي أحد منهم يصلي نهائيا، فصليت وحدي إذ لا صلاة في الكتيبة ولا في غيرها، والهيئة التي يظهرون بها مجرد «إطلاق لحى»، ويدخنون، ويسمعون الأغاني.. فلم ألاحظ أي شيء يلمح إلى الدين. • هل تذكر الأغاني التي يسمعونها؟ - لم أذكر، لكن أسمعها، فبعض العناصر تنعزل ليلا في الطابق الأرضي، ويغلقون الباب، ولا نسمع سوى أغان، ولا نشم سوى الدخان. • مع الواقع الذي يخلو من الصلاة والعبادة ويتشرب بالدخان والأغاني.. هل هم يرفعون شعارات وعبارات مثل «الله أكبر»؟ - الآيات القرآنية والعبارات الجهادية تغطي مدخل الكتيبة. • مثل ماذا؟ - مثل الآية «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى»، وعبارة «قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة».. بمعنى أنك تشاهد ديكورا جهاديا. • هل صحيح ما يشاع عن نكاح الجهاد؟ - بالنسبة لي أنا، لم أشاهد شيئا من ذلك، لكن شهدت خطبة أحد المقاتلين من الكتيبة لفتاة سورية، ولكن أخبروه بعد أيام أن الفتاة قتلت في عملية قصف. • ألم تتزوج هناك؟ - لا والله ما تزوجت ولا فكرت. • ولم يعرض عليك أحد الزواج؟ - لا، ولكن يسألونني باستمرار «أنت أعزب؟». • ماذا كانت نظرة المقاتلين إلى المملكة؟ - نظرة حسد وحقد، وهم يستهدفون السعوديين طمعا في أموالهم، فضلا عن جعل بعضهم ضحايا وفرائس للخيانات. • ولم يسألك أحد عن مجيئك إلى سوريا مقابل تحذير مفتي عام المملكة وأعضاء هيئة كبار العلماء من السفر إلى هناك؟ - ليس للمفتي أو أعضاء هيئة كبار العلماء أي اعتبار لدى المقاتلين، لأن فتاواهم تتعارض مع رغباتهم الخاصة، بل كرسوا في ذهني أن علي تجاهل أي فتوى تصدر من المملكة أو غيرها بشأن الجهاد، وقالوا لي إن الجهاد في سوريا فرض عين على كل مسلم، وزاد أحدهم «لو كانت اللقمة في فمك عليك أن تخرجها وتنفر إلى الجهاد، بلا مشورة الأم ولا الأب ولا الأخ ولا غيرهم». • ما الرسالة التي توجهها إلى شباب الوطن المغرر بهم في مواقع القتال؟ - أنا قررت الحديث للإعلام، كي أبرئ ذمتي أمام الله، فأنا نجوت ولله الحمد، وبأعجوبة، ولا أتمنى على أحد من شباب الوطن أن يمر بالتجربة المريرة التي عشتها. • بقيت أيام وتنتهي المهلة التي أعلنت عنها وزارة الداخلية ودعت فيها المقاتلين في الخارج إلى العودة.. ماذا تقول لهم؟ - أنا أوجه نداء إلى جميع الشباب السعوديين في الخارج أن يتقوا الله في أنفسهم قبل كل شيء، وفي أهليهم وذويهم، وأن يقيموا الواقع بما يرونه لا بالعواطف والمشاعر.. فالجهاد واضح، وما يجري في سوريا ليس بجهاد أبدا، فآمل أن يتداركوا هذه الفرصة ويعودوا في أقرب وقت. • بماذا تتنبأ لمستقبلك؟ - أنا ابن الوطن، وأتطلع للزواج وبناء أسرتي، وإكمال دراستي، ولكن ظروفي عسيرة، فالشباب فيهم خير، ونأمل من جميع الجهات المزيد من العناية بشؤونهم، والعمل على رعايتهم. • وأخيرا انتهى الحوار بسؤال مازحت فيه مهندوف: - أنا أنوي الجهاد.. هل تهيئ لي الطريق؟ (يضحك) والله يا ابن الحلال.. احمد ربك على اللي أنت فيه.