يكشف المقاتل «مهندوف» في هذه الحلقة عن تفاصيل المؤامرة التي حاكها عناصر الكتيبة التي انضم إليها في محافظة إدلب السورية، حيث خططوا لتسليمه إلى النظام السوري مقابل 100 ألف ليرة (2500 ريال)، ويروي قصة إفلاته ليلا من الكمين الذي نصبوه للإطاحة به، لكنه صدم بعناصر الجيش التركي، الذين تعاملوا معه على أنه «لاجئ سوري»، فألزموه بالتوقيع على تعهد، وأعادوه مجددا إلى الأراضي السورية بعد أن أقلوه في مؤخرة شاحنة عسكرية. مهندوف.. الذي حرم من وجبة الإفطار داخل الكتيبة، وصار غذاؤه زيتونا وطماطم فقط، ولم يعد يسمع لغة للتخاطب معه سوى «وين المصاري؟ وين الفلوس؟» اضطر بعد فراره من جحيم المقاتلين لقطع أوراق الشجر وسط الغابات وجمعها، والاحتماء تحتها من قسوة البرد ليلا، وعند الصباح رفع سلاحه «الكلاشنكوف» بيديه الاثنتين عند الشريط الحدودي مع تركيا، وألقى به في النهر، ليختم بذلك رحلة «القتال».. ولكن هل ستنتهي رحلته عند هذا الحد؟ طبعا لا. ● نواصل حوارنا .. ماذا حصل لك بعد عودتك إلى الكتيبة؟ - عدنا إلى الكتيبة، وهناك لاحظت على قائد الكتيبة وكأنه يقول للمنسق «إيش عند السعودي هذا؟» وكأن المنسق يطلب مهلة للتحري عني. ● وكيف أدركت هذا السيناريو؟ - أدركت هذا وفهمت الواقع من نظرة قائد الكتيبة تجاهي، وفور دخولنا البناية أدخلني المنسق إلى شقته في الطابق الأول، وجلست بين أطفاله ووضعوا لنا وجبة الغداء، وكانت زيت زيتون وزعتر وخضروات، فدخل علينا قائد الكتيبة أثناء الأكل، فرمى نظرة إلى المنسق وكأنه يقول «إيش عند الرجال هذا إلي أنت جايبه؟»، عندها استأذنت من المنسق، وقلت له «أنا بأطلع شقتي ارتاح»، فخرجت متأثرا من الموقف وصعدت إلى شقتي في الطابق الأعلى، ومكثت ساعات من التيه والشتات الذهني، فأكثر من قراءة القرآن والدعاء لله إلى وقت المغرب، فجاءني المنسق ثانية، وجلس عندي وقال لي «الآن ما تقدر تشوف أحد يتبرع لنا بالمال من السعودية، فأنتم ما شاء الله عندكم خير، والله رازقكم بالمصاري (النقود)، فكلم لنا ناس يا أخي، وشوف لنا أحد يقدم لنا مال، فحنا بحاجة المال، وأكثر ما نحتاج إليه المال». ● إذن انتهت عبارة «ينقصنا الرجال»؟ - اختفى هذا الكلام تماما، وبمجرد دخولي هذه المرحلة لم أسمع نهائيا عن حاجتهم إلى الرجال، حتى أنهم برروا حاجتهم للمال بأنه يجلب لهم الغذاء والسلاح ويؤمن لهم كل شي، فعندما رأيت إلحاحهم الشديد على المسائل المالية، تظاهرت بأنني أجري اتصالا بشخص في المملكة، وقلت للمنسق في وقت لا حق «بعد ما طلعت من عندي كلمت واحد ووعدني خير إن شاء الله، وأنا في انتظار رده»، فقال لي «خير إن شاء الله»، بينما أنا لم اتصل في الأساس، لأنني لا أعرف أحدا استلف منه مبلغا في هذا الظرف، بل أنني أجهل كيفية وصول المال إلى موقعنا حتى وإن توفر الداعم.. وفي اليوم التالي كان البرنامج مثل يوم أمس، نخرج ونجول في أرجاء الغسانية، بينما أنا أعيش في حالة ترقب تساورني بأن هناك شيء قادم وسوف يحصل، فعدنا ونمت في شقتي، إلا أن تلك الليلة كانت مفزعة جدا، لم أسمع فيها غير أزيز الطائرات وأصوات القاذفات، وكنت أسمعها قريبة جدا، وهنا دخلت فعليا أجواء الحرب، فأوكلت أمري لله، وأمضيت ثلاث ساعات في فزع لم أستطع النوم أبدا، حتى داهمني النوم إلى صلاة الفجر، فاستيقظت على يوم مختلف تماما عن ما سبق، حتى أن الشخص المنسق الذي تواصلت معه منذ البداية شعرت بأنه تغير في تعامله معي. ● من أي جانب لاحظت هذا التغير؟ - كان يصعد إلى شقتي صباحا ويقدم لي الطعام لكنه لم يأت في ذلك اليوم، وبعد انتظار طويل دون مجيئه قررت النزول إلى أسفل البناية، وهناك سألت عنه أحد عناصر الكتيبة، فقال لي «نائم»، فعدت إلى شقتي، وإذ بهذا المنسق يدق باب الشقة عند الساعة 12 ظهرا، ففتحت له الباب، ووجدته شخصا آخر غير الذي كنت معه طيلة الأيام الفائتة، فسألني «أكلت شي؟» فأجبته بأنني لم آكل أي شيء منذ أن استيقظت فجرا، لا فطور ولا غداء، فنزل إلى شقته، وبعد ساعة جاءني ابنه الصغير يدعوني للنزول إلى والده في شقته، فنزلت وقدم لي زيتون وطماطم وزيت زيتون. ● بمعنى أنها وجبة لا تشبع؟ - أبدا، لا تشبع، ولا الأكل ذاته جيد.. في تلك الجلسة كان معنا شاب من اللاذقية، وهو طالب جامعي، وشعرت أن المنسق فارض شخصيته على هذا الشخص، فأخرج الشاب هاتفه المحمول وعرض لي صورة للبحر وتبدو فيها الشمس وقت المغيب، فسألته عن موقع الصورة، فأجابني بأنها اللاذقية، فقلت له «إن شاء الله تتحرر سوريا بكرة على خير وسلامة ونزور اللاذقية»، فأخذ المنسق الهاتف المحمول وشاهد الصورة، فقال لي «شايف الصورة هذه؟» فقلت له «أيوة»، فقال «شايف الشمس هذه؟» فقلت له «أيوه»، فقال «والله إذا غابت ما أظن بتطلع مرة ثانية»، وكان ينظر بحدة نحو الشخص صاحب الهاتف، حتى أن هذا الشخص كان يأكل وعندما قال له هذه الجملة أنزل اللقمة من فمه.. فأنا هنا تأكدت تمام أن مشكلة سوف تحصل. ● بمعنى أنك بدأت تشم رائحة الخيانة؟ - نعم، شعرت بأن الخيانة سوف تحكم المصير مستقبلا، لكنني استفدت من هذا الموقف بأنه أوعاني وأيقظني من ما كنت فيه «وكأن شخصا جاء يخبط علي ويقول لي اصحى»، في هذه الحالة أنا تظاهرت بأنني لم أسمع شيئا، فصعدت إلى شقتي، وأنا صرت ميالا للجلوس مع ذاك الشاب، لأنني ارتحت له، وصرت أفكر كيف التقيه وأجلس معه، فنزلت ومن حسن الحظ وجدته واقفا عند الدرج (السلم)، فسلمت عليه، وقلت له «يا أخي أنا جيت هناك وتركت أهلي وأحبتي ووطني وتركت كل شيء، وتنازلت عن أعز ما أملك، فأنا جاي على أساس الدفاع عن المسلمين»، فقال لي «أنا بأقول لك شي، لكن متردد وخايف، وأنا بأقول لك إلي عندي ولا كأنك شفتني ولا شفتك، لأنه مبين عليك شخص طيب»، عندها وجهت كل ذهني وفكري إليه، ليكشف لي الحقيقة بقوله «نظام الأسد وعد بمنح مكافآت لهؤلاء وأمثالهم عند الإبلاغ عن أية معلومة تتعلق بالمقاتلين العرب، وخاصة الخليجيين، أو تسريب أماكن إقامتهم، أو تسليمهم لأقرب حاجز للنظام، إذ لهم مكافآت تبلغ 100 ألف ليرة سورية». ● وأنت على السلم ألم تتنبه لأحد قد يسمع حديثكما بما في ذلك المنسق؟ - المنسق كان في شقته، ولم يوجد أحد في السلم أبدا. ● ولم تفكر في هذا الشاب بأنه مجرد أداة للإيقاع بك، وأن نصيحته تجرك للهلاك؟ - فكرت، ولكن هذا الشاب قال ما عنده وأكد لي بأن هذا ما لديه وترك التصرف لي، وقال لي «ترى أنا سمعت البارح حوار صار بين قائد الكتيبة والمنسق وبعض العناصر، بأن هذا الشخص عالة علينا ولن نستفيد منه شيئا، فحنا نؤكله ونشربه وما منه فائدة، فليش ما نسلمه لأقرب حاجز للنظام ونستفيد 100 ألف ليرة».. فصعدت إلى شقتي وصرت في حالة لا أفكر إلا في طريقة للهروب من المقر ومن سوريا كلها، فأدركت أنني في خطر، وأن تلك ليلة نصب لي فيها كمين، فصعد المنسق الذي كنت على تواصل معه إلى شقتي، وطلب مني أن نتجول ونلتقط صورا في البلدة، فأبديت موافقتي، وكان الوقت عندنا قبل المغيب. ● وافقت وأنت على خلفية بالمؤامرات، وأن هذه الجولة قد تكون غادرة وتهوي في الكمين؟ - نعم، ولكن كنت حذرا للغاية، وليس بيدي قرار غير الموافقة، فأخذني معه وصار يلتقط لي صورا في أكثر من موقع، فمرة عند باب الكنيسة، ومرة عند مقر الكتيبة، وأخرى التقط معي صورا بالاستعانة بأحد المارة. ● وهل زودك بهذه الصور؟ - لا، بل احتفظ بها لنفسه. ● أكمل.. وماذا حصل بعد الجولة؟ - عدنا قبل مغيب الشمس بقليل، وأدركت أن هلاكي أو تسليمي لأقرب حاجز للنظام سيكون بعد الغروب، خاصة أن بعض حواجز النظام قريبة من المدينة بمسافة لا تزيد عن 25 كم، وبعد ساعة شاهدت من النافذة ذاك الشاب الذي من اللاذقية، فنزلت إليه وسألته «يا ابن الحلال.. أنا كيف أرجع؟ أنا لازم أرجع» فأخذ بيدي وصعدنا إلى سطح البناية التي نقيم فيها، وأشار بأصبعه إلى منطقة مقابلة، وسألني «تشوف ذاك الضوء البعيد»، فقلت له نعم، فقال «هذا مركز حدودي تابع للجيش التركي، روح وسلم نفسك لهم، وأكثر من كذا ما أقدر أسوي لك شي، واعتبر إني ما شفتك ولا قلت لك شي». ● كم يبعد عنكم ذلك المركز تقريبا؟ - حوالي 15 كم والمشكلة أن المنطقة وعرة جدا، وكلها جبال وغابات وقنوات وأنهار، لكنني شعرت فعلا بصدق ذاك الشاب، وأنه يخشى التورط مع قائد الكتيبة، فاتخذت قرارا بالخروج من المقر والذهاب لذاك المركز، خصوصا وأنني توجست دخول مسلحين إلى شقتي في أية لحظة للقبض علي، وصرت ادعو الله أن لا أكون سببا في قتل أي مسلم، لأن الأمور أصبحت أمامي مشوشة، ولم أعد أعرف صديقي من عدوي. ● وهل استعديت للفرار الآن؟ - نعم، حيث نزلت إلى الأسفل وخرجت من بوابة الكتيبة، ومعي الرشاش، وصرت أمشي بهدوء أمام المقر وأنا أقرأ القرآن، وتظاهرت أنني بحاجة للتجول في الأسفل في محيط المقر فقط. ● أفهم من ذلك أنك لم تحمل أية حقيبة معك؟ - تركت حقيبتي، وجميع أغراضي، ولم أحمل شيئا غير السلاح وشريحة رقمي السعودي بجانب مصحف صغير، بينما جواز السفر وبطاقة الهوية الوطنية الخاصة بي فتم التحفظ عليه من قبل المنسق بمجرد لقائي به في أنطاكية، كما أخذ مني حقيبة أوراق كانت تحتوي على كل شهاداتي الدراسية. ● وهل يتطلب الجهاد حمل شهادات دراسية؟ - قصدت من ذلك حمل كل شيء يخصني أنا، فكل ما يتعلق بي حملته في شنطة واحدة، سواء أوراقي أو وأغراضي الشخصية أو ملابسي، فلم أترك سوى «فراشي». ● نكمل.. - فعندما ابتعدت قليلا اتخذت طريقا لا يتوقعون أنني أسير فيه، بحيث اتجهت إلى ناحية اليسار وسلكت طريقا بين أشجار كثيفة، إذ لم أسلك الطريق مباشرة من أمام الكتيبة، وصرت أمشي ولساني يلهج بالدعاء أن ينجيني الله من ما أنا فيه، فلم أعد أفكر إلا في الخلاص بجلدي، فسرت لأكثر من نصف ساعة، وهنا اطمأننت فعلا أنني غبت عن أنظارهم، لكنني فوجئت بدخولي قرية تشهد حركة أكثر من البلدة التي كنا فيها، فبدأت أسمع أصوات دراجات نارية وإطلاق نار، وصرت أشاهد حركة من الناس، هنا اضطررت إلى الالتزام في مكاني بين الأشجار، والبقاء إلى أن تهدأ هذه الحركة، فبقيت في ذلك الضيق ساعتين، لأن جميع سكان البيوت يبدأون بتشغيل المولدات الكهربائية بعد المغرب لمدة نصف ساعة، وتستمر الحركة بين ساعة إلى ساعتين في الظلام إلى أن يلتزموا جميعهم البيوت.. أنا في هذا الوقت توكلت على الله وتحركت لمواصلة السير، وصرت أمشي بين غابات وأشجار وكأنني في مشهد لأحد الأفلام الخيالية، فواجهني نهر وقطعته، إلى أن وصلت عند الجبل الذي في أعلاه المركز التركي عند الساعة الرابعة فجرا، وشاهدت العلم في أعلى المركز، لكن بسبب الضباب الكثير الذي يغطي المكان لم استطع التدقيق في العلم، حيث ساورني شك أهو علم تركي بالفعل أم سوري تابع للنظام «فهل يعقل أن أسلم نفسي للنظام وأروح لهم برجولي؟». ● إذن اضطررت للبقاء إلى أن تتضح حقيقة العلم؟ - نعم، والله لدرجة أنني صرت أقطع أوراق الشجر وأتغطى بها من شدة البرد، وكنت اسأل نفسي وأنا أقطع أوراق الشجر وأتعذب من البرد «ليش سويت بنفسي كذا؟»، ومع التعب الشديد الذي أعيشه قررت أن أغفو وأنام إلى أن تشرق الشمس فأشاهد العلم، فنمت ساعة ونصف الساعة، فاستيقظت وأول ما وجهت عيني إليه هو المركز، وإذ بي أشاهد العلم التركي فعلا.. فارتحت، وأول ما فعلته في تلك اللحظة أن وقفت على ضفة النهر، وحملت السلاح بيدي الاثنتين، وقذفته وسط مياه النهر، كوني أيقنت أنني في أمان، ومقبل على تسليم نفسي للسلطات التركية، فبدأت أسير نحو المركز في رأس الجبل، وكانت غابات وعرة للغاية، إذ أرهقني وأتعبني الصعود إليه، وأنهك كل قواي.. وأول ما اقتربت من المركز فوجئت برجلين يشهران سلاحهما نحو، فرفعت يدي، إذ يبدو أقلقهما مجيء وأنا مرتد بدلة عسكرية، فاقتربا مني ووضعا السلاح علي مباشرة، وجاء رجل ثالث وعمد على تفتيش ملابسي وجسدي شخصيا، فصاروا يتكلمون إلي باللغة التركية، وأنا لا أفهم شيئا، وقلت لهم «عربي .. عربي»، فأخذوني وأقلوني في شاحنة تابعة للجيش، وذهبوا بي إلى مركز آخر للجيش، وهناك أجلسوني في «الحوش»، وقدموا لي قطعة خبز وحليب، وصاروا يرددون علي «ترجماني.. ترجماني» ففهمت أنهم استدعوا مترجما للموقع.. فجاء المترجم وقال «إيش في»، فأوضحت له أنني سعودي الجنسية، وأنا هربت من سوريا، والآن أريدكم أن تتصلوا بالسفارة السعودية لترتيب عودتي إلى المملكة، فطلب مني تقديم ما يثبت أنني سعودي، فقلت له لا أملك أي شيء «يا الله نفذت بجلدي»، فأبدى صعوبة الاتصال بالسفارة دون التثبت من هويتي، وحاولت إفهامه لكنه رفض التجاوب أكثر من هذا الحد، فجلست في مكاني وإذ بأربعة عساكر مسلحين يأخذوني ويقلوني في مؤخرة شاحنة أخرى للجيش، يغطيها شراع أخضر وبها كرسي من الحديد جلست عليه، فسرنا بين الأشجار وتوقف قليلا، وفجأة نزل من الشاحنة اثنين من العساكر، وأدخلوا في الشاحنة بجانبي أطفال ونساء ورجال وشباب، وجاء عسكري يحمل ورقة يطلب من الجميع التوقيع عليها، ومعه ذلك المترجم، في تلك اللحظة لم اهتم بمضمون الأوراق التي أوقع عليها، فسألني عن اسمي فأجبته، فكتبه في الورقة وطلب مني التوقيع، أمضيت دون الخوض في أي تفاصيل، إلا أنني رصدت الورقة أثناء ما كان رجل بجانبي يمضي عليها، حيث مكتوب عليها باللغة العربية «أنني أرغب بمحض إرادتي العودة إلى الأراضي السورية»، فأنا في نظرهم الآن لاجئ سوري، ولست مقاتلا سعوديا.. حاولت حينها التفاهم مع المترجم، لكنه لم يعرني أي اهتمام، فأنزلونا إلى بوابة على الحدود وقال «فوتوا» أي أدخلوا، وعدت من جديد إلى سوريا. غدا.. ماذا حصل لمهندوف بعد إرغامه على العودة لسوريا؟