إن المعاناة الحقيقية جذور القصيدة التي قامت عليها وهي الداعم الأساسي لمتانتها وبقائها فبها تستطيع الصمود رغم بعد تاريخ ميلادها. إن تلك الجذور التي تحتضنها المعاناة أثناء تقديما لقصيدة ما والشعر عموما بكل أغراضه تتعدد لتشمل : قائل القصيدة وصدق إحساسه ومشاعره ويتبين ذلك من مناسبة القصيدة، وظروف قيلت فيها، كما أن فعال القائل تجعل للقصيدة متانتها ومصداقية تزيد من التماسك في أوصالها، فإن بالغ خالف واقعه قوله فانحدر وإن قلل المعاني رفع الواقع ما انخفض وعلى شأن القصيدة دون جدل، لأن هناك مستوى لا ينحدر القول الصادق عنه ولا يرضى المقياس التدني له. واليوم لعلنا نتوقف قليلا حول ما يجري، فالكم الهائل في الشعر الشعبي وما يلقى من الأشعار أصبح هاجس المتتبع للساحة الشعرية الشعبية، فربما قال قائل مرة أنه ظاهرة صحية، وربما قال قائل آخر أنه لا يتأسس بقوة بقدر ما يزهر قبل الحول فنرثيه قبل تمام عامه. ولعله يتبادر إلى الذهن بيت من الشعر قالته الشاعرة : الراسية مع فارق المعنى طبعا، فالمعنى مختلف تماما عما تم توظيفه فيه هنا فهي تقول: أحس إن مالعمري بقايا بعض الشجر نرثيه ما كمّل الحول فبعض الشعر ينطبق عليه هذا المعنى تمام المطابقة، نرثي الكثير من القصائد قبل اكتمال نفس القائل ونتنفس نحن من نسائم قديمة، والسبب يكمن في الجذور، نعم الجذور وحدها إما قوية تبقي الأغصان مستمرة كما هي لا تتغير عما هي عليه، أو هي جذور لا وجود لها. وهذا الإحساس يمكن أن يكون في بعض القصائد عندما لا تستند على شيء، لا من حيث القائل وفعاله ولا على الأبيات وما فيها من معانٍ، فربما نرثيها وهي تقال قبل النهاية، فتكتب نهايتها مع خيوط مهد البداية حتى ولو تغنينا بها وحولها، ففي الجذور سر البقاء. يقول الشاعر: عندي كلام وكل ما جيت أقوله لقيته أكبر وانحبس ماي بلزاي ولعله يقصد أن القول يحتاج إلى دعائم يرتكز عليها في القائل نفسه، وفي مناسبة القصيدة، وفي ارتكازها أيضا على المصداقية الحقيقية لا المتخيلة، وإن كان أعذب الشعر أكذبه إلا أن أبقاه أصدقه، ولا يكفي أن يكون بليغاً وله معانٍ قوية وإن كان شرطا لا خلاف عليه، إلا أن قوة القول في أسسه بالدرجة الأولى. الكل يقول أقوالا من النثر والشعر والكل يعبر وربما استعار القوة من هنا وهناك أعني من البلاغة ومن الكلمات ومن الثقافة العامة، ولكنها استعارات لا تدعم ما لم يدعمها واقع القائل، وهو أن يكون أهلا للقول. ولعلي أورد جزءا من قصيدة ذات جذور مشتركة بين قائلها ومعانيها ومصداقية الشاعر والمشاعر أيضا، فقائلها فارس شجاع وفي الوقت نفسه شاعر تسلسلت معانيه في كل صور القصيدة متوافقة معها، ونظرا لطولها فإنني فقط أكتفي بأبيات منها باعتبارها شاهدا على الشعر القوي والجذور التي أشرت لها بأنها الأساس. الأساس في أن تبقى والأساس في أن تقوى والأساس في أن يصادق الواقع للشاعر على حروف القصيدة وأنها حفرتها المعاناة في الذاكرة الشعرية. شاعرنا هو راكان بن فلاح بن حثلين. يقول الشاعر : يا ما حلا الفنجال مع سيحة البال في مجلس ما فيه نفس ثقيله هذا ولد عم وهذا ولد خال وهذا رفيق ما لقينا مثيله يا ليت رجال يبدل برجال ويا ليت في بدلا الرجاجيل حيله يا بو هلا طير الهوى خبث البال الطير نزر والحبارى قليله يا الله يا اللي طالبه ما بعد فال يا اللي من الضيقات نجى دخيله أفرج لمن قلبه غدا فيه ولوال والنوم ما جا عينه الا قليله لا من ذكرت ارموس عصر لنا زال شوف الفياض وفقد عز القبيله يا زين شدتهم آليا روح المال يتلون براق حقوق مخيله والكلام يطول في حال إرادة التعمق في المعاني والمباني والأسس التي يتمتع بها القائل والمناسبة والمصداقية والمعاناة الفعلية الحقيقية التي عاشها الشاعر فمدت جذور القصيدة في تاريخها فلا تعصف بها رياح النسيان والتجاهل. من هنا نقول لابد من جذور حقيقية للقصيدة وللشاعر حتى لا تتساقط أوراقها مع خريف الوقت والأيام. تحياتي للجميع.