الإسلام السياسي مفهوم تجاوز الدراسات والأبحاث ليدخل ميدان العمل المتصل بحياة الناس ومستقبل دول وأمن أقاليم وحتى استقرار العالم، وقد اهتمت به مراكز الأبحاث المعنية بعلم الاجتماع السياسي وانعقدت حوله المؤتمرات والورش والنقاشات بهدف دراسة طبيعة وفكر وبرامج هذا التيار. وفي هذا العام طرح مهرجان الجنادرية «الإسلام السياسي» محورا رئيسا لنشاطه الثقافي مع انسجام مع الاهتمام العام. وفي إطار المساهمة في مقاربة هذه القضية نستطلع رأي مجموعة من الباحثين والمهتمين وأصحاب التجارب في هذا المجال. مثلما كان وصول الإخوان المسلمين للسلطة علامة استفهام، كان خروجهم منها مثار الكثير من علامات الاستفهام، وفتح الباب واسعا أمام الكتاب والمفكرين والسياسيين للمناقشة والتحليل والنظر في مستقبل هذه الحركة. وفي هذا السياق، أكد أستاذ العلوم السياسية الدكتور عمرو الشوبكي، أن سقوط حكم الجماعة فتح الباب أمام مناقشة الفرضية الكبرى في قراءة التيارات الإسلامية، والتي تقول إنها تيارات بحكم بنيتها الفكرية والتنظيمية غير قابلة لتبني الديمقراطية، وإنها لأسباب هيكلية ستظل معادية للديمقراطية وللحريات العامة ولقيم المواطنة، حتى لو ادعت، في بعض المراحل غير ذلك، لأن موقفها الدفين هو رفض الديمقراطية، وأنها حين تصل للسلطة لن تسمح مطلقا بتداولها، وفي مقابل هذا الرأي هناك من يعتبر أن مشكلة التيارات الإسلامية غير «التكفيرية» هي مشكلات تتعلق بالسياق السياسي المحيط «حتى لو أقر بوجود مشكلات عقائدية في فكرها. وقد تكون إحدى مفارقات الربيع العربي أن تنجح القوى الأكثر محافظة والأقل ثورية في الوصول إلى سدة الحكم، خاصة في مصر وتونس، في حين أن القوى التي وصفت نفسها بالثورية ظل كثير منها أسير شعارات وفعاليات ثورية احتجاجية حالت دون أن يكون بناؤها بديلا سياسيا مقنعا لعموم المصريين وقادرا على أن يؤسس لمشروع سياسي جديد. ويضيف: جماعة الإخوان ظلت أسيرة المرحلة التأسيسية الأولى التي قادها مؤسسها حسن البنا، عام 1928 حتى وصولها للسلطة في 2012، رغم تغير الأساليب والأولويات التي استخدمتها في كل عصر، إلا أنها ظلت أسيرة لهذا التداخل بين الجماعة الدعوية والسياسية، وبين الدفاع عن العقيدة ونشر الدعوة الإسلامية، والعمل السياسي والحزبي. ويرى أن وضع جماعة الإخوان في مصر كان ومازال غامضا ومثيرا للحيرة والجدل حتى بعد وصولها للسلطة، إذ أنها رفضت أن تقنن وضعها القانوني مثلها مثل باقي الجمعيات الأهلية، وحافظت بمحض إرادتها على لقب الجماعة المحظورة، فظلت فوق الدولة وفوق القانون رغم وصولها للسلطة في مفارقة تبدو صادمة.. إن الفارق الواضح بين تجربة «إخوان تونس» و«إخوان مصر» كما يقول الدكتور الشوبكي، أن الأولى يوجد بها حزب ينتمي لمدرسة الإخوان اسمه حركة النهضة، ولكن لا توجد جماعة غير قانونية تحركه من وراء الستار اسمها جماعة الإخوان كما في مصر، ويوجد رئيس واحد لحركة النهضة هو راشد الغنوشي، ولا يوجد له مرشد ولا نائب مرشد ولا مكتب إرشاد يصدر له توجيهات مطلوب منه أن يلتزم بها. إن اللافت في هذا السياق، أن تنظيم الجماعة القوى والمغلق لعب دورا كبيرا في شعور قطاع واسع من المصريين بالغربة عن حكم الجماعة، بعد أن اختارت الأولى أن تتعامل مع الدولة والمجتمع بمنطق الجماعة الوافدة، وأرجعوا مشاكلهم للإعلام المضلل ومؤامرات الخارج، ونسوا أن قوة التنظيم الذي أوصلهم للحكم كانت هي الطريق الذى أخرجهم منه، ولذا من المهم التمييز بين مستقبل جماعة الإخوان ومستقبل تيارات الإسلام السياسي، لأن خصوصية تنظيم الجماعة لا تنسحب على باقي التيارات الإسلامية، فلو عادت الجماعة يوما ما فستكون وفق شروط الدولة الوطنية الحديثة والدستور المدني الذي يحظر على الجماعات الدينية والدعوية ممارسة العمل السياسي، أما بالنسبة للأحزاب الإسلامية الأخرى، فالأمر يختلف بلا أدنى شك لأنه سيعني التزامها بقانون الأحزاب وبالقواعد الديمقراطية، لأنها متخلصة من فكرة الجماعة الأممية المغلقة. وجهة نظر أخرى في هذه القضية يقدمها، الدكتور عمار علي حسن الباحث في علم الاجتماع السياسي، استهلها بمقولة تاريخية «لو استقدمت من الأمر ما استدبرت لعدت بالإخوان إلى المأثورات»، هذه مقولة شهيرة للشيخ حسن البنا مؤسس الإخوان قالها بعد أن تورط «النظام الخاص» إحدى مكونات الجماعة في أعمال قتل وتخريب، كانت تمثل ذروة انخراط الإخوان في لعبة الصراع على السلطة، والذي أدى إلى حل «الجماعة». يشير الدكتور عمار علي حسن ، إلى أنه كان بوسع الإخوان، أن يقدموا للسياسة ما هو أفضل، وأكثر نفعا، من مجرد انتظار الحكم، أو التوسل بأدوات عدة للقفز إليه، وبإمكانهم في الوقت نفسه أن يقدموا للدين، ما يحفظ له جلاله وقدسيته، ويبعده عما ألقته الممارسة السياسية على كاهله من أعباء جسام طيلة التاريخ الإسلامي، فيحققوا لأمتهم ما تحتاجه بالفعل، ولأنفسهم ما يقيهم من تغول مناوئيهم، وشرور المغرضين منهم، الذين يستخدمون الدين في تحقيق مآربهم الشخصية، دون لوم أو ورع. وحول مفهوم السياسة، بالنسبة لتيار الإسلام السياسي، قال الدكتور عمار، إن السياسة تبدو في خطاب الإخوان على سبيل المثال، تمضي في دائرة فلك القوة الصلبة التي تعني الاهتمام بالركائز العسكرية والاقتصادية للقوة، ومن ثم سعت الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، إلى امتلاك هاتين الركيزتين، فكونت تنظيمات سرية، دججتها بالسلاح، وقوت ساعدها بالتدريب القتالي، لتدخل في مواجهة دموية مع الأنظمة الحاكمة، وعلى التوازي دخلت هذه الجماعات إلى عالم المال، لتستزيد منه، وتوظفه في خدمة أهدافها السياسية، فبدت بذلك خصما من رصيد مجتمعاتها وليست إضافة إليه. وحول مصير تيار الإسلام السياسي، قال الدكتور عبدالله النجار أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، أعتقد أنهم سقطوا في كبوة، ولن يقوموا منها قبل عقود طويلة بسبب ضيق أفق الذين صعدوا سدة الحكم في الفترة السابقة، حيث ركزوا على الشكليات والمظاهر دون المضمون، واعتقدوا أن ما يفعلونه هو الأصح وما سواهم خطأ، وبات واضحا للعيان أنهم يستخدمون طريقة الغاية تبرر الوسيلة، وللأسف الوسيلة غير شريفة. وأكد ناجح إبراهيم القيادي السابق في الجماعة الإسلامية أن النظر لمستقبل الحركة الإسلامية بعد الإطاحة بنظام الإخوان يحتاج للوقوف على الأخطاء التي وقع فيها الإخوان وأهمها عدم إدراكهم طبيعة الشعب المصري، واستحواذهم على السلطة وتجاهل القوى السياسية الأخرى، وختم الدكتور إبراهيم حديثه بتوجيه كلمة للحركة الإسلامية وشبابها قائلا: إن المناصب والكراسي لا تصنع الدين ولا الدعوة، ولكن الدعوة هي التي تبقي وتصنع القلوب والمناصب. فيما أشار كمال الهلباوى القيادي السابق بجماعة الإخوان المسلمين: إن تيار الإسلام السياسي يواجه أزمة حقيقية عقب انهيار نظام الإخوان، هذه الأزمة يمكن تجاوزها بأن يتجه الإسلاميون للبعد عن العمل بالسياسة والتوجه للعمل الدعوي فقط، وعن طريق اندماجهم بالدعوة يمكنهم أن يستعيدوا ثقة الشعب مرة أخرى بعيدا عن العمل السياسي. إن قادة تيار الإسلام السياسي يضلون قراءة الواقع، ومن يضل قراءة الواقع سيضل الطريق لبناء المستقبل، مؤكدا أهمية استعادة الثقة مع مؤسسات الدولة، متسائلا: كيف يريد طرف يعادي مؤسسات الدولة أن يحكمها؟ وقال الهلباوي: إن تيار الإسلام السياسي يحتاج إلي مراجعة وإن الإخوان، طوال تاريخهم، ينتهجون سياسات ديكتاتورية لخدمة مصالح النخبة والتنظيم الدولي للجماعة، وبالتالي لم يعد الإسلام السياسي هدفا للشعوب في جميع أنحاء الشرق الأوسط وداخل دول الربيع العربي. من جانبه، قال الدكتور عبدالستار المليجي القيادي المنشق عن الإخوان إن يوم 30 يونيو حول المواجهة ما بين الإخوان والسلطات إلى مواجهة ما بين الإخوان والشعب، ولذلك فهو يعتقد أنه لن تقوم للإخوان قائمة بعد اليوم، وبالتالي سيلفظهم المجتمع المصري إلى يوم الدين، حيث أصبحت كلمة إخوان مسلمين مرتبطة في أذهان الشعب بالجهل والإرهاب، فإذا كانت الجماعة يطلق عليها في السابق المحظورة من قبل السلطات، فإنها الآن أصبحت محظورة وإرهابية بالنسبة للشعب المصري، ولا حياة للتنظيم بعد الآن. وفي السياق ذاته، أشار ثروت الخرباوي القيادي المنشق عن جماعة الإخوان المسلمين، إلى أن تيارات الإسلام السياسي استخدمت الأموال بكافة الطرق على مدار الأربعة عقود الماضية والإنفاق ببذخ على فقراء الشعب كل في دولته، مما ترك أثرا نفسيا إيجابيا لهذه الطبقات عند الإسلاميين ضد الأنظمة الحاكمة، حتى جاءت فرصة صعودهم إلى الحكم بعد الثورات فكان لهم ما أرادوا من رصيدهم السابق، لافتا إلى أن بعض الدول العربية مثل سوريا، العراق، ليبيا، تونس، حاولت الولاياتالمتحدةالأمريكية وأكثر من أي وقت مضى الاعتماد بقوة على جماعة الإخوان المسلمين لزعزعة استقرار هذه الدول أو توجيه سياساتهم إلى الموالاة للغرب فور صعودهم للحكم، لكن فشل هذه الجماعة في مصر أربك حسابات الغرب تماما وأجهض محاولاتهم في إعادة تقسيم المنطقة بالتعاون مع جماعة الإخوان التي لا تؤمن أساسا بالحدود أو القومية العربية. وأضاف الخرباوي: إن جميع المنتمين لتيار الاسلام السياسي، ينعمون بالحماية من الولاياتالمتحدةالأمريكية التي استغلت هذه الجماعات ضد التواجد السوفيتي بالتمويل المالي والسلاح والتدريب العسكري للمحاربة بالوكالة ضد الاتحاد السوفيتي، حتى ظهر فيما بعد ما يسمى بتنظيم القاعدة، وأضاف الخرباوي: إن الإسلام السياسي في المنطقة انكشف تماما أمام الشعوب العربية بعد سقوط إخوان مصر وإظهار مدى تواطؤهم مع الغرب .