ليلة البارحة، زارتني صديقة لي وأهدتني (سبحة) أنيقة بديعة الشكل قالت إنها ابتاعتها من مكة خلال أدائها العمرة الأسبوع الماضي، وأردفت متمثلة بالمثل الحجازي الطريف: كانت زيارتي لمكة (حج وبيع سبح)! كان من الطبيعي أن يربط المثل الحجازي الحج ببيع السبح، فسوق بيع السبح يزدهر في موسم الحج لزيادة إقبال الناس على اقتنائها. وإقبال الناس على اقتناء السبح هو لحاجتهم إليها لتعينهم على عد مرات التسبيح، فقد ورد في بعض الأحاديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوصى المسلمين بتسبيح الله ثلاثا وثلاثين، وحمده ثلاثا وثلاثين، وتكبيره ثلاثا وثلاثين، وذلك بعد كل صلاة، ولأن كثيرا من الناس يحرصون على الأداء الحرفي للعبادات أكثر من حرصهم على التفاعل القلبي والذهني معها، فإنهم يقبلون على اقتناء السبح ليتأكدوا أن ذكرهم الله مسايرا في عدده لما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى به. والسبح عادة تأتي في ثلاثة أحجام، صغيرة مكونة من 33 خرزة فقط، أو متوسطة تحوي 66 خرزة، أو كبيرة تضم 99 خرزة، وذلك ليساعد عد الخرزات المسبحين على معرفة عدد المرات التي ذكروا فيها ربهم، فيعرفون كم مرة سبحوه، وكم مرة حمدوه، وكم مرة كبروه... وهكذا. والاستعانة بالسبحة على الذكر هي من الأمور الطارئة على المسلمين، فهي لم تكن معروفة أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، بل حتى اسمها (سبحة) هو من الألفاظ المولدة، حسب ما ذكره ابن منظور في لسان العرب، ولعل السبحة دخلت إلى الثقافة الإسلامية عن طريق الزهاد والمتصوفة من الهند وفارس وغيرها من الأمم التي كانت السبحة معروفة عندهم من قبل الإسلام، فحسب ما تذكره بعض المصادر التاريخية، فإن السبحة كانت معروفة في الصينوالهند، وإن كانت استعمالاتها مختلفة عما هي عليه عند المسلمين، فقد كانت تستعمل تميمة لإبعاد الشر والأشرار، وكانت بسيطة في مادتها، تصنع من الخشب أو العظم أو الصدف. في أيامنا هذه لم يعد حمل السبحة سمة خاصة بالمسبحين وحدهم، ولم يعد كل من اقتنى سبحة يحملها لتعينه على الذكر، في هذا العصر بات بعض مقتني السبح يحملونها لتعينهم على التحكم في ضبط انفعالاتهم التي يودون إخفاءها، وذلك عبر شغل أيديهم بتحريك حبات السبحة والعبث بها، كما بات بعضهم الآخر يقتنيها لتكون وسيلته للتباهي بما هو عليه من الوجاهة والثراء حين يراه الناس حاملا سبحة باهظة القيمة، فالسبح ليست متماثلة في أثمانها ولا حتى متقاربة، هناك سبح يمكن الحصول عليها من محلات (كل شيء بعشرة)، وسبح تلقاها ضمن دور المجوهرات الفاخرة مختومة بأختام العلامات التجارية العالمية الكبرى؛ مثل شانيل وقوشي وبرادا.. وغيرها.