وجد الإنسان نفسه منذ الأزل أمام طبيعة كونية محاطة بالجبال والأشجار والمياه وغيرها، ثم بدأ يستخدم عقله للاستفادة منها وتأمين ما يمكن أن يساعده على البقاء قيد الحياة من مسكن وملبس ومأكل ومشرب، لكنه لم يغفل تسليته واستمتاعه بكل ما يمكن أن يدخل السرور على قلبه فابتكر أنواعاً عدة من وسائل الترفيه من مقدرات البيئة وجعلها مطواعة بين يديه، وتوارثتها أجياله من بعده. وابتكر الهنود إحدى هذه التسالي فكانت فكرة السبحة ليرفّه الهندي عن نفسه ولو بالفتات اليسير من البيئة والتلاعب بها بين يديه، وترجع بعض المصادر التاريخية السبحة إلى أقدم من ذلك فربطتها بكل الديانات القديمة، واستخدام الكَهَنة لها في أداء بعض طقوسهم وعباداتهم لأجل التقرب إلى الآلهة التي كانوا يعبدونها، وقيل أن البعض منهم استخدمها في ممارسة السحر والشعوذة لكن بعض المؤرخين الجدد نسبها إلى أصل عربي. وقال: «إن انتشارها زاد بعد الفتوحات الإسلامية وكانت تستخدم في التسبيح والاستغفار كطريقة تسهّل على مستخدمها الحفاظ على وردِه اليومي». أما محمد المحمود صاحب أحد محال بيع السبح فيقول عنها: «كانت تصنع في بداية ظهورها من الطين المجفف المعد وفق حلقات صغيرة متباعدة يربطها خيط رفيع لتشكل حلقة كاملة، وقيل لنا أنها كانت تصنع من أسنان الموتى»، مشيراً إلى أن صناعتها تطورت فصقلت من الأحجار الكريمة والكائنات البحرية مثل القواقع والأصداف ثم من الزجاج، ثم الزجاج الملون والكهرمان الأسود والخزف، وصولاً إلى جذوع الأشجار ذات الروائح الزكية. وأكد المحمود أن سبح اليوم لم تعد مثل سابق عهدها من حيث مواد الصنعة، إذ دخلت عليها المواد التقليدية البحتة والرخيصة، وهبطت قيمتها فأثّرت كثيراً على السبح ذات الجودة العالية التي لا توجد إلا في محال متخصصة. واختلف الناس هذه الأيام في طريقة استخدامهم للسبحة وتعددت مقاصدهم. فمنهم من يتسلى بها ومنهم من يستخدمها في أمور دينية ومنهم من يتفاخر بها أمام الآخرين. يقول سعد محسن: «أحب استخدام السبحة، وأتسلى بها، وأحرص على اقتناء السبح الخشبية والخفيفة الحمل، وقد تساعدني السبحة في بعض الأحيان على التفكير في بعض المسائل وفي كتابة قصائد». فيما يحرص عبدالله سعيد على اقتناء السبحة ذات الجودة العالية والألوان الجذابة، وخصوصاً إذا كانت بألوان موحدة ضمن طقم رجالي يشمل القلم والكبك والساعة والخاتم، ليكتمل الهندام وتتناسق الهيئة الشخصية. لكن محمد علي يعود إلى الغرض الديني للسبحة قائلاً: «أستخدمها دائماً في التسبيح والاستغفار، وهي لا تفارقني لأنها تساعدني على ضبط الأذكار اليومية وخصوصاً في رمضان». ويختلف معه محمد صالح بالقول: «لا أحرص على اقتنائها ولا أجد لها أي قيمة، نظراً لما يقال عن أنها من البدع في الدين إذا استخدمت في الاستغفار والتسبيح، وقد توقع صاحبها في محظور ديني»، موضحاً «إذا أراد أحد أن يسبح أو يستغفر فعليه استخدام أصابع يديه». وسجلت السبحة حضورها في قصائد بعض الشعراء كمعادل موضوعي استحدثه الشاعر فكتب عبدالرحمن الشهري في قصيدته «يتضور في جسد آخر»: «ستكون هنالك قائمة بالمفقودين وبالأسرى. وبشيخ يسمع قرقعة السنوات المنتظمة في خيط السبحة». وقال شاعر آخر: «طقطقت السبحة في يدها فعرفت الآن مصير الحب الضائع»، في حين نظم الشاعر الشعبي بديوي الوقداني: «انفكّت السبحة وضاع الخرز... ضاع وازريت المّه يا سليمان وأزريت»، وتبقى السبحة تراثاً وتاريخاً يحرص الكثير من الناس عليه، ويتواصل التفنن في صناعتها ومواكبتها للحياة العصرية.