بين الباحة وبين الرياضوفرنسا، ترعرعت ذاكرة وذكريات الناقد والأكاديمي الدكتور معجب الزهراني، ولم ينس قرويته ولم يصعب عليه ترويضها؛ لتنعكس على العقل تحضرا، وعلى الذات تمرينا على الحنين للولادة السوية، وأصدقكم أني كنت في هذا الحوار كخارج من كهف لأقتفي آثار الضوء، فالضيف لا يرى الثقافة مجرد معرفة أو كتابة أو قدرة على التعبير والفضفضة البلاغية، بل يراها سلوكا واحتراما للذات يعطي معنى احترام الآخر لك.. وهنا نثار التقطناه من مساء كويتي سخي: ما سر ابتعاد النقاد السعوديين عن المنجز الإبداعي المحلي؟ أعتقد أن الحركة النقدية لم تعد مصاحبة للإصدارات المعرفية والإبداعية، وأذكر أننا في الثمانينيات والتسعينيات لم يكن يصدر كتاب إبداعي أو معرفي إلا ويصاحبه عدد من القراءات وأحيانا في صحيفة واحدة، وفي الأعوام الأخيرة لا أرى أي مصاحبة، وربما أن الهاجس الإبداعي لا يمثل للنقاد قضية، كونهم خريجي مدرسة الصحوة واشتغالهم الأكبر على وظيفة ومنصب وبحوث ترقية ومراكز ومصالح مع الأسف، ودعني أقول البعض حتى لا أُعمم. كيف ترى اشتغال بعض النقاد بالنقد الاجتماعي مع إقصاء النقد الجمالي والفني؟ منذ مطلع القرن العشرين والعالم العربي مشتغل بالنقد الاجتماعي، بما في ذلك طه حسين والعقاد، وأول ما يتفتح الوعي يتفتح على أزمات كما قال عبدالله العروي ومن هنا تأتي جاذبية الهم الاجتماعي، وأنا والغذامي والبازعي والسريحي قدمنا ما لدينا، وتناقل العرب من المحيط إلى الخليج أطروحاتنا باحتفاء مبهج، وننتظر ما سيقدمه من جاء بعدنا. كيف تصف نتاج الثقافة السعودية اليوم؟ يدهشني بعض كتاب الصحف ممن يقدمون الرؤى والأفكار الناضجة، ويتناولون قيم التعددية والحرية والعدالة والمساواة، وهي قضايا لم يعد يطرحها الغرب منذ عقود، ويؤسفني أن بعض النقاد لا يتقن لغة ثانية مع العربية، ولذا برغم رؤيتهم الجيدة إلا أنهم غير قادرين على طرح الأفكار المستفزة، وبعض كتاب الصحف أقوى وأجمل في كتابته من بعض النقاد. ألا تظن أن ممانعة تيار الصحوة خلقت فيكم تحديا وقبلتم الصراع لإثبات الذات؟ أعتقد أن المثقف لا يختار خصومه، والصحوة كانت مهيمنة بخطابها التقليدي، ونحن أتينا بمشروع حداثوي، ومن هنا انخلقت حالة فكرية وحوارية جادة وقوية، وللعلم الثقافة والأفكار الجميلة والتقدم لا تكتمل تصوراته إلا بمثل هذا الحوار تحت ظل تيارات متنوعة وغير إقصائية ولا مهيمنة بالقوة، وفي فرنسا كل عقد قضية تثار آخرها نقد التحليل الفرويدي. كيف يمكن الحوار وطرف ما يشعرك أنه يحمل بين يديه نصا لإدانتك ويحمل في دماغه فهما سطحيا للنص؟ النصوص والجمال لا يمكن الاشتغال عليهما إلا رمزيا، ذلك أنها قابلة للتأويل والفهم والقراءات المتعددة، والمفكرون عبر العصور لا يؤمنون بمبدأ امتلاك حقيقة نص ما، والحوار مع المخالف له قيمة معرفية وحضارية، شرط ألا يحمل عصا أو سلطة عدا سلطة المعرفة. ما مدى رضاك عن جامعتك الأم جامعة الملك سعود، وهل من مقارنة بينها وبين جامعة اليمامة أو السوربون؟ لا مجال للمقارنة، جامعة الملك سعود كانت الأصل في الإنتاج المعرفي، وعملي في جامعة اليمامة إداري بحت، ولعل أهم ما أنجزته « تأسيس كرسي غازي القصيبي للدراسات الثقافية»، وأملي كبير في تأسيس كراسٍ تالية، ما سيحسب لجامعة اليمامة ولي شخصيا في خانة المكسب الوطني، وأصدقك القول إن المؤسسة الجامعية لم تبن حتى الآن، والسوربون التي درست بها أصبحت اليوم عشر سربونات، ولكل واحدة منها فلسفة معينة واستقلالية تامة وتميز محدد، ولا تقبل أي منها أن يتدخل أحد في عملها، ومن هنا جاء مصطلح «حرم جامعي»، ونحن هنا في العالم العربي ما زلنا بعيدين عن مثل هذه المستويات. ما الحل التقريبي من وجهة نظرك؟ ما لم أتوقعه يوما أن تتحول جامعاتنا السعودية إلى أنماط مكررة ونسخ متشابهة، وكان يمكن أن نجعل لكل جامعة شخصية اعتبارية مستقلة فجامعة البترول تقنية، والملك سعود مدنية، والإمام شرعية، والملك عبدالعزيز بحثية، وأتساءل هنا: كيف يمكن لقرابة 200 ألف مبتعث ومبتعثة أن يعودوا بعد إنجازهم التعليمي للعمل في جامعات تقليدية وتلقينية، وللعلم أيضا أنا درست في جامعة الملك سعود في السبعينات ولا يكاد يمر بنا أسبوع حتى نشاهد في مسرح الجامعة فيلما أو نحضر مسرحية أو نقيم حفلة غنائية ناهيك عن محاضرات وندوات وأمسيات واليوم الجامعات لا تتنفس بحرية، والجامعة لا يمكن أن تخدم المجتمع بانصياعها للثقافة السائدة، بل تقود المجتمع بخلق فضاء جامعي صحي يؤنسن المشاعر ويعقلن الوعي المجتمعي. هل تأدلجت الجامعات السعودية؟ حين تقيم جامعة نورة مسابقة جري بين طالباتها ثم يحولها البعض إلى إشكال يعني أننا نمر بأزمة، وأن هناك تزمتا وردة إلى الوراء باسم المحافظة، وفي هذا خطورة على المجتمع وعلى الثقافة. أين المراكز البحثية المتخصصة؟ أحد الأصدقاء زار الهند ورأى مراكز أبحاث وعلماء لا يقلون عما في أوروبا وأمريكا، ونحن نصرف مليارات ولم ننجز ولم ننتج تقنية، وربما حتى الوعي لم يتوفر، فالحديث مع قروي عركته تجارب الحياة أبلغ وأكثر منطقية من حديث أو حوار مع أستاذ جامعي. ما تقييمك لمواقع التواصل الاجتماعي؟ نحن مجتمعات تستهلك المعرفة كما قال أحد الفلاسفة المغاربة، ومواقع التواصل أصلت فوضى الكلام وشهوة الثرثرة وأتاحت مساحة للعنف اللفظي الذي يمكن أن يتحول إلى عنف سلوكي، نعم هي حررت الناس من الكبت، إلا أنها انحطت بالبعض أخلاقيا وسلوكيا. كيف تصالح ذاتك مع ما تضج وتعج به الحياة من صدمات مؤلمة؟ عشت طفولتي في بيئة قروية سوية، كان للناس ثلاثة أوقات، وقت للعمل، ووقت للصلاة، ووقت للرقص، وفي لحظة خطف شن البعض حربا على الثقافة الجمالية فاختفى الرقص، وتراجع العمل، ولم نعد نحسن التدين، وحينما نفقد القدرة على استشعار الجمال ندخل في حالة كآبة ونرتمي في أحضان الفكر المتوحش، فأخلاقنا سابقا وأخلاق الفروسية منذ القرون الأولى أرقى من أخلاق من يحيط نفسه بحزام ناسف ويفجر مستشفى أو سوقا أو حتى ثكنة عسكرية. هل انتهكت خصوصية صديق من خلال روايتك (رقص)؟ استبعد مفهوم الانتهاك، أنا عبرت عن كثير من التجارب التي اختزنتها مبكرا وحاولت التعبير عنها احتفاء بذاكرة واحتفالا برؤية مستقبلية. ماذا تقول لمن وصفها بحديث إفك؟ إطلاق مصطلح حديث إفك على رواية من باب الثرثرة كونه ليس مصطلحا نقديا ولا معرفيا. ألا تشعر بحرج منها وتهرب من تكرارها؟ مطلقا، بل سعدت بالحديث عن 35 عاما عشتها وعايشتها وثلاثة من أصدقائي في الباحة كل منهم يزعم أن الرواية تتحدث عنه، فالكتابة هي عن الذات، وما عدا الذات حكايات ومرايا وأصوات. ما مساحة الأنثى في حياتك؟ المرأة الأم هي الأصل والرجل الأحمق هو من ينسى هذه الحقيقة البيولوجية البسيطة ليتوهم ويصدق أنه أعلى منزلة من أجمل الكائنات على الإطلاق فعلا، أمي «سعدى» رحمها الله هي الأكثر تأثيرا في حياتي وشخصيتي، خصوصا أن الوالد «سعيد» توفي قبل أن ندرك شيئا عن ملامح وجهه ونبرات صوته وهي وعمتي، أمي الثانية حقيقة لا مجازا، من تولى رعايتنا ونحن ثلاثة أولاد وخمس بنات، وكم كانتا حكيمتين حين تولت إحداهما إدارة البيت والثانية تنمية الحقل يوم كانت الأرض مصدر كل شيء، ولا أتحرج من القول بأننا ربما كنا محظوظين باليتم المبكر؛ لأن آباء تلك الفترة كانوا أكثر قساوة على جميع أفراد الأسرة مما قد يتصوره البعض اليوم، وليس السبب صعوبة الحياة فحسب، بل لأن الثقافة الذكورية المسيطرة على مجتمعاتنا بالأمس واليوم تنمي في الرجل نزعات عدائية يحسبها دليل قوة فيما هي دليل ضعف وتوحش، ولأنه لا يليق بأحد أن يحصي هدايا الأم فسأتوقف هنا احتراما وإجلالا لروح لا تزال ترفرف من حولي كلما مسني الضعف وحاصرتني الوحشة، أما أم توفيق التي سموها «مصباح» وسميتها «صبا»، فالمؤكد أنها كانت وستبقى قرينة القلب ورفيقة الدرب والمركز العاطفي لكل الأسرة تزوجنا عن حب بريء، وتقاسمنا لحظات التعب والراحة قرابة أربعة عقود، منها تسع سنوات عشناها في فرنسا لعلها الأغنى والأجمل، ولحسن الحظ أننا ما زلنا نحلم بالكثير من الأسفار لأنها عشق مشترك، وقديما قال ابن حزم إن الأرواح جنود مجندة ما تشاكل منها ائتلف وما تنافر منها اختلف، وكان يتكلم بلسان محب يعرف الحكمة اليونانية جيدا. هل أغرتك رقص بكتابة رواية تالية؟ لا شك أن كل كتابة حميمة تغري بالمزيد من مثيلاتها، لكن النص الأول كالحب الأول ليس من السهل نسيانه، وخصوصا بالنسبة لكاتب عاشق لا يطيق برمجة شيء من هواياته وغواياته. ما سر الحنين إلى القرية.. اغتراب المفكر أم غربة مبكرة؟ لا أظن المسألة يمكن أن تختزل في مقولة الحنين فيما أظن. فمع علمي الأكيد بأن قرية الذاكرة ماتت منذ ثلاثة عقود على الأقل إلا أنني قررت العودة، بعد التقاعد، إلى ذلك الفضاء طلبا لأمرين لا غير. الأول هدوء البال. والثاني مباشرة بعض الأعمال الخيرية وفاء بدين مستحق للمكان وسكانه. فعلا سعدت بالتعليم الجامعي حوالي ربع قرن، وقد تعلمت من طلابي وطالباتي فوق ما علمت، لكني لم أعد أتحمل حياة المدن الكبيرة الصاخبة.. ولو كانت باريس الفاتنة. أما حين تختفي مظاهر الحياة المدنية الحديثة من مدينة صحراوية كالرياض، فإن الفضاء كله يتحول إلى شكل من أشكال الغربة. هل هي مشكلة بعض المثقفين والمبدعين المغتربين فطرة وثقافة؟. أظن ذلك ولا أجزم به !. وفي كل الأحوال ما زلت أعمل وأحلم وأقطع ما تبقى من الوقت بالسفر الحر ما استطعت إليه سبيلا. على ماذا تشتغل اليوم؟ لدي واجبات جديدة يقتضيها عملي الحالي بجامعة اليمامة وأحرص على أدائها بكل جدية وإخلاص ومحبة، أما القراءة والكتابة فعادة يومية لا يمكن أن أتخلى عنها؛ لأنني لا أحسن غيرها بكل بساطة، ولا وعد إلا حين تكون الثمرة قد شارفت حد الاستواء، وعلى هواها وحكمتي هنا جملة شعرية لرينيه شار، الصديق المفضل لهيدجر، تقول «يعجبني الإنسان، شجرة في مطلع نيسان، غير واثقة من نهاياتها».