هل تتخيلون كيف يمكن أن يكون حال أي منا لو أننا لا ننسى ونبقى نتذكر كل شيء؟ هل عقولنا وقلوبنا قادرة على استيعاب كل ما يمر بنا من أحداث ومشاعر وأشخاص وتخزينهم تراكميا دون أن يمحى منهم شيء أو أحد؟ بالتأكيد أننا غير قادرين ولا مهيئين سيكيولوجيا ولا فسيولوجيا لاستيعاب كل هذا الكم الكبير من الأحداث والتفاصيل الحياتية المعقدة والمتواترة والدقيقة في تفاصيلها أحيانا، ولا كل الأشخاص الذين يمرون بحياتنا، عابرين كانوا أو أصدقاء أو زملاء عمل أو أقارب أو حتى أحباب قد نعيش معهم أو قد نفارقهم يوما ما. أفراح كثيرة وأحزان كثيرة أيضا تمر بنا ومشاعر رضا ورفض وغضب وكره وحب، تخيلوا أنها تلقى جميعا في عقولنا وقلوبنا، أيها سوف يمثلنا، وأيها سوف نحتفظ به، وأي الأشخاص سوف نبقي عليهم ضمن تصنيف هذه المشاعر المتزاحمة؟ بالتأكيد أن فكرة الاحتفاظ بكل شيء معقدة جدا لمجرد التفكير بها؛ لذل فلنحمد الله على نعمة النسيان. النسيان.. واحدة من أعظم وأجل النعم التي من بها الله عزو جل على عباده، وإلا لما قدرت أم على فراق فلذة كبدها إن وافاه الأجل المحتوم ولا ابن أو بنت على فراق أمهما، ولا زوجة على فراق زوجها والعكس. لولا نعمة النسيان لكانت الحياة معقدة يستحيل العيش فيها، ولكن بالنسيان تختزل ذاكرتنا ما تريد أن تبقي عليه من مشاعر وتحتفظ بالأشخاص الذين نريد لهم أن يبقوا معنا حتى بعد الرحيل عنهم، وبين من نمحوهم من ذاكرتنا وكأنهم لم يكونوا بها يوما ما دون أن نأسى على فراقهم. وقد وصف الدكتور إبراهيم ناجي في رائعته «الأطلال» الوصفة السحرية كيلا نقع في فخ تعقيد الحياة بعدم النسيان بدقة متناهية: أيها الساهر تغفو تذكر العهد وتصحو وإذا ما التأم جرح جد بالتذكار جرح فتعلم كيف تنسى وتعلم كيف تمحو. نعم، الحياة لا يمكن لها أن تتوقف عند حدث، ولا تسمحوا لها أن تتوقف عند أحد، الحياة تستمر ولا يمكن لشخص أيا كانت منزلته منا أن يجعل حياتنا تتوقف عنده إن هو هجرنا أو نحن هجرناه إن اختار فراقنا أو فارقناه، والذاكرة الإنسانية بنوعيها.. «قصيرة المدى short term memory» و «long term memory» ، تختزل من تريد لهم أن يبقوا فيبقوا معنا، وتمحو من لا تريد لهم البقاء معنا، ولذلك الحياة تستمر وتمضي بنا الأيام سراعا نحو واقع جديد وأشخاص جدد ولا تتوقف الحياة إلى برحيلنا إلى جوار رب كريم «أطال الله في أعماركم». يقول الأمير خالد الفيصل: يا نعمة النسيان يا رحمة الله لولاك أنا عزاه وش كان سويت لو أذكر اللي كان دقه وجله ما كان ساعة في حياتي تهنيت لولاي اسلي خاطري جاه عله وارتاح لين ارسلت بعض التناهيت. صحيح إن طريق الذاكرة نحو عالم النسيان ليس مفروشا بالورود دائما؛ فهناك من يبكي لينسى، وآخر يضحك لينسى، وآخر ينام ليهرب من واقعه وينسى، وهناك من يغرق نفسه في العمل لينسى، وهناك من يسافر لينسى، وهناك من يلجأ لأشياء ضارة لينسى كالإدمان على المخدرات أو معاقرة الخمر، أو غيرها من السلوكيات الضارة، وهناك من يختار حياة جديدة وأشخاصا جددا ليكمل مشوار الحياة معهم، شريطة أن يجيد الانتقاء كي لا يكرر أخطاء الماضي ويضطر للعودة من المربع الأول والدخول في دائرة الذاكرة والنسيان من جديد، وهناك من يحب لينسى، وهناك من يخون لينسى، شبكة معقدة جدا من التناقضات وربما المترادفات والمتواليات التي تبدأ ولا تنتهي. هكذا هي متلازمة الذاكرة والنسيان، شبكة معقدة جدا من العلاقات الإنسانية إذا ما كان الحديث عن الذاكرة وحدها، ولكن الحياة تصبح أسهل وأجمل إذا ما كان الحديث عن النسيان، ولعل من أجمل وصايا النسيان تلك التي أطلقها الأمير بدر بن عبدالمحسن، عندما قال: تذكر النسيان لا عاد تنساه يا قلب وانسى القلب لعل يشفا يدرى الحبيب انه حبيب وابجفاه ما هو خراب الكون لا اقفيت واقفا كان الخطا منى فقلبي خطاياه هو علمه وشلون يهجر ويجفا. إلى أن يقول: إلى متى صدري بتحرق حناياه كنك على صالي عظامي بتدفا والى متى جفنى بيسقيك من ماه كن الليالي لا صفا الدمع تصفا تذكر النسيان يا قلب وانساه وانسى الجروح اللي مع الوقت تشفا.