في مارس 2007، دوى انفجار في شارع المتنبي ببغداد، الشارع الذي حمل لعقود بسطات الكتب ودكاكينها وغذى بغداد بالثقافة والأدب.. ذلك الانفجار الذي غطى الفضاء بملايين القطع الرمادية الصغيرة من بقايا الكتب، بعشرات القتلى والجرحى واليأس والأمل، لم يمت، إذ قرر بعض المهتمين ومن ترجع أصولهم إلى العراق وبالاشتراك مع بعض المؤسسات الثقافية أن يقيموا معرضا متنقلا مكونا من تفاعل أكثر من 206 أدباء وفنانين بالنصوص الشعرية والسردية والتصاميم والرسومات والأعمال المركبة، والتي كتبت بلغات عديدة وصنعت بأيد عالمية في وصف ذلك اليوم بشكل خاص، ذلك الشارع، أشلاء الكتب وأشلاء الإنسان العراقي. في الخامس من أكتوبر انتهى بيت الشعراء في نيويورك من استضافة معرض «شارع المتنبي يبدأ من هنا» والذي استمر لمدة أربعة أشهر، قام خلالها بجعل العبور من المعرض هو الطريق الوحيد، الشارع الممتد، لدخول مكتبته وقاعات محاضراته.. مررت بذلك الشارع محفوفا برائحة البارود والصرخات وخبط الأحذية الراكضة واحتراق اللحم والضفيرة؛ لم يكن مهما بالنسبة لي أن أفهم المعنى وراء المعروضات، فلا أستطيع القراءة بغير اللغة العربية والإنجليزية، بقدر ما أعجبت بالتنوع الماثل هنا تقديرا للثقافة العربية ودفعا بإنسانيتها للأمام، إذ لا شيء يرفع للأعلى سوى أعلام السلام والفن الذي يرقى عن الصراعات ويوحد البشر. كتاب على شكل يد بشرية محترقة كتب عليه (witness).. كتاب آخر تتدلى من بين صفحاته ضفيرة رأس عالقة بلا رأس.. دم مسحوب على أسفلت لوحة، وورقة طويلة جدا ملفوفة كأنها صنعت من البردي، كتب فيها الكثير ورسم فيها من بين ما رسم عازف كمان حزين.. على الجدران الكثير من التصاميم على شكل ملصقات لما حدث في شارع المتنبي أو صحف جرائد قامت بنشر خبر التفجير، فسلها فنان ورسم عليها ما خطر له. هذه لوحة خط عليها سعدي يوسف قصيدة له ووقع تحتها، وتلك لوحة كتب عليها سنان أنطون أيضا ومهرها باسمه. الكتب التي على الرفوف عبارة عن دفاتر تنقلت بين أيد كثيرة لكتابة ورسم ما يخطر بالبال.. هناك طاولة احتفت بالشعر العربي المترجم إلى الإنجليزية (العراق، البحرين، شاعرات من العالم العربي.. وغيرها). (شارع المتنبي يبدأ فيك)، (اصنع كتبا لا قنابل)، (حكمة، إلهام، غصن) هذه بعض الشعارات المعلقة على جدران المعرض.. ويبدو لي أن الثيمة التي ربطت الأعمال فنيا هي الاحتراق.. لا كتاب أو ورقة أو لوحة إلا و فيها شيء من السواد، شيء من الدخان، الاحتراق والنجاة في آن واحد، كأن الأعمال خرجت للتو من الانفجار صارخة في العالم ليصحو، لينقذ ما تبقى.