كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، عاش أجدادنا الكرام حروبا عظيمة في زمانهم العتيد، ذلك الزمان الذي كانت تنشب فيه الحرب بمجرد قتل ناقة أو تقدم فرس على أخرى أو حتى لبيت من الشعر صدح به شاعر ليهزأ من قبيلة أخرى ليرى بعدها أفراد تلك القبيلة أن «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى تراق على جوانبه الدم»، ذلك اللون الأحمر ما زال يتقدم تفكيرنا دائما ويرسم على قماشه القاني أعداؤنا خططهم، فهو قطعة قد ألصقت على جباهنا يحركونها كيفما يشاؤون، ونحن نثور كما يشاؤون أيضا ! حربنا اليوم أقصد قصتنا اليوم عن «داحس والغبراء» وهما اسما فرسين وقد كان «داحس» حصانا لقيس بن زهير العبسي الغطفاني، و «الغبراء» فرسا لحذيفة بن بدر الذبياني الغطفاني. كان سبب الحرب هو سلب قافلة حجاج للمناذرة تحت حماية الذبيانيين مما سبب غضب النعمان بن المنذر وأوعز بحماية القوافل لقيس بن الزهير من عبس مقابل عطايا وشروط اشترطها ابن زهير ووافق النعمان عليها مما سبب الغيرة لدى بني ذبيان، فخرج حذيفة مع مستشاره وأخيه حمل بن بدر وبعضا من أتباعه لعبس لمقابلة ابن زهير وتصادف أن كان يوم سباق للفرس. اتفق قيس وحذيفة على رهان على حراسة قوافل النعمان لمن يسبق من الفرسين. كانت المسافة كبيرة تستغرق عدة أيام تقطع خلالها شعب صحراوية وغابات، أوعز حمل بن بدر من ذبيان لنفر من أتباعه يختبئون في تلك الشعاب قائلا لهم: إذا وجدتم داحس متقدما على الغبراء في السباق فردوا وجهه كي تسبقه الغبراء فلما فعلوا تقدمت الغبراء. حينما تكشف الأمر بعد ذلك اشتعلت الحرب بين عبس وذبيان، وقد دامت تلك الحرب أربعين سنة. ما يحدث على أرض سوريا اليوم من استغلال لعاطفة دينية لا يختلف كثيرا عن استغلال المناذرة للعرب ومن ورائهم الفرس عن واقعنا المعاصر وما زال المكان هو المكان وهذه المفارقة التي استغلها من يجند أبناءنا الذين يذهبون شبابا ويأتون إلينا في التوابيت قرابين لنار المجوس الخبيثة ! يؤكد علماء الأنثربولوجيا «علم الإنسان» أن بداخل كل منا رموزا وقيما ما زالت محتفظة بحيويتها الأولى، وما زالت تلك القيم والرموز تحتفظ بشحناتها دافئة داخل الذاكرة الجماعية، ولذلك قبل أن نعالج ظواهر نعتبرها دخيلة علينا لا بد أن نعي أننا أمام من يعمل على إيقاظ تلك الشحنات الدافئة حتى يستغلها بدون وعي منا، تحت غطاء عاطفة الدين، والدين منه بريء تماما، فديننا الحنيف عندما بدأ في صياغة مجتمع متحضر أبطل كل ما يمد تلك القيم القاتلة البعيدة عن التسامح والسلام، وأوجد طرقا كثيرة للحوار والسياسة، كان السيف آخرها حلا ! هذه الحقائق لا بد أن يعيها الجميع من خلال تعليم جيد وقوي، وإعلام مسؤول حتى نخرج بجيل لا يرى أن الحل الوحيد هو أشلاء متناثرة، ورؤوس مقطعة وأناس جوعى ليبني عليها الغافلون دولتهم المتهالكة.