إبراهيم عبدالمجيد قفز إلى ذهني هذا السؤال بعد أن انتهيت من رواية جديدة، رغم أنها طبعا ليست الرواية الأولى، وكان ذلك يحدث معي دائما، وهو بالتأكيد يحدث لأي كاتب، إلا أنه هذه المرة زاد عن غيرها. فمع كل عمل أدبي يعيش الكاتب زمان ومكان شخصياته ويكتب بلغاتها المتعددة تعددها في العمل. البعض يطلق على ذلك تقمص الكاتب للشخصية أو توحده معها. وأنا مع اصطلاح التوحد أو التماهي؛ لأن في التقمص قصدية مسبقة، وواقع الحال أن الشخصيات هي التي تستدعي الكاتب إلها وتوحده بها. تلفه بعباءتها. ويكون عذابه الجميل من فضلك أنه يصبح متوحدا مع عدد مختلف فيه الطيب وفيه الشرير، فيه المرأة وفيه الرجل والطفل أيضا إذا تواجد أطفال في العمل. وهكذا يصبح الكاتب مشردا بين شخصيات لها عليه سطوة أكثر من سطوة الشخصيات في الحياة الحقيقية لكنها غير مؤذية. أنت يمكن أن تعتذر عن لقاء مع شخص ما، أو الذهاب إلى رحلة ما، أو أي عمل في الحياة جميلا أو قبيحا، لكن الكاتب لا يستطيع أن يفلت من أسر الشخصية ولا يعتذر عن الاستمرار معها بأي طريقة من الطرق إلا إذا خرجت هي من العمل. أذكر حكاية حقيقية، لكنها ستبدو هنا على سبيل الفكاهة، أنني يوما، منذ أكثر من ثلاثين سنة، شرعت في كتابة رواية عن مشروع بناء مصنع في الإسكندرية هو ترسانة السفن البحرية بحي الورديان التي عملت فيها في بواكير حياتي حين كانت الأرض بحرا ويتم ردمها لإقامة المشروع فوقها. كنا نحن العاملين من نبني المشروع العملاق. والمشروع كما قلت في منطقة الورديان داخل الميناء. والميناء له أبواب نخرج وندخل منها. بعد أن تقدمت فيها بفصلين فقط قفز شخص كنت دائما أراه يقف علي الباب يتفاوض مع الحراس للخروج بما يحمل من سرقات من السفن. أي والله! كان هذا الشخص رحمه الله من قبل زميلا لي في المرحلة الإعدادية وفشل في التعليم مبكرا. كنت أراه في دخولي وخروجي فأجد نفسي مضطرا لتحيته، وإذا لم أفعل يناديني ويقبل يصافحني ويبدي سعادته أني أصبحت شخصا مرموقا وأنهيت تعليمي! غيرت باب الدخول والخروج. المهم أن هذا الشخص قفز إلى الرواية التي أكتبها وأراد أن يتسيدها ويصبح هو بطلها. والسبب كان مغريا، فهو بالإضافة إلى ما يفعله كان فتوة المنطقة ويحمي سكانها من اللصوص! ويعتمد عليه البوليس في إشاعة الأمن في الحي! مثل فتوات زمان في مصر. وفي النهاية قتله البوليس بأن سلط عليه أحد اتباعه طعنه وهو نائم مع زوجته في مغارة في الجبل. موضوع مغرٍ جدا بالكتابة بينما أنا أريد أن أكتب رواية عن عظمة الإنسان الذي يبني مصنعا وسط البحر. توقفت عن الكتابة شهورا؛ لأني كلما كتبت كاد هو يستحوذ على ما أكتب. قلت والله العظيم «يا علي» وكان هذا اسمه في الحقيقة لن أكمل هذه الرواية ولن أكتب لا عن عظمة الإنسان ولا عنك. وبالفعل، توقفت عن الكتابة ولم أعد إلى الرواية، وبعد سنوات أخذت ما كتبته وفرقته على رواية بيت الياسمين بعيدا عنه، وكانت شخصيتها الرئيسية تعمل في هذا المشروع لكن الرواية كانت عن شيء آخر. كانت معركة لذيذة لم تتكرر لم أستطع أن أفصل فيها بين الواقع والخيال إلا بالابتعاد عن الرواية. بعد ذلك لم تحدث معركة بيني وبين الشخصيات بهذا الشكل ربما لأن أكثرهم لم أكن أعرفهم في الواقع ولا أقابلهم في الطريق أو عرفتهم في مواقف مختلفة. لكن عادة كل شخصيات رواياتي يصبحون هم العالم الحقيقي الذي أعيشه أنادي الناس بأسمائهم ويلحون علي حين أجلس منفردا وأشعر بالأسى لكثير منهم والحزن، وأبحث عنهم حولي فلا أجدهم فأدرك أنهم في الخيال. أنشغل لكن أعود من جديد أبحث عنهم. تستغرق هذه المسألة أسابيع طويلة بعد الكتابة حتى تأخذني الحياة الطبيعية. انتهيت من راويتي الجديدة وشعرت بالمسألة تزداد وطأتها علي، فسألت نفسي هل حين يتقدم الإنسان في العمر يصبح أكثر حساسية. الذي أعرفه أن الإنسان يفقد كثيرا من قدرته على التذكر. فلماذا تطل الشخصيات المتخيلة من الذاكرة أكثر من غيرها؟ مؤكد حداثة العهد بها لكن يظل السؤال لماذا تتحول إلى حقيقة. هو التوحد الذي يخضع الكاتب له دون إرادة ويسعد به حتى ينتهي من عمله ثم يشعر أن أصحابه لا يزالون يمشون معه. يحدث ذلك في وقت تموج فيه الحياة المصرية بالمشكلات والتحديات وكثير من الأخبار المحزنة وقليل من الأخبار السارة. ومطلوب رأيك عند كثير من الصحفيين. استطعت أن أعتذر ثم لم أعد أرد على التليفون. ثم أغلقته كثيرا. والحقيقة كانوا مؤدبين، فكلما قلت لأحدهم أنا عائش الآن في القاهرة في السبعينات ورئيسي الآن هو أنور السادات ولا توجد أحزاب. يضحك ويدعو لي ولا يلح في السؤال. لكن صديقة سألتني بعيدا عن الصحافة: ما إحساسك بالبنات والسيدات اللاتي تكتب عنهن في الرواية. قلت لها «والله يا صفاء أنا مبسوط لأني قابلتك النهارده». نظرت لي بدهشة وصمتت قليلا تكاد تضحك. أدركت أنا أن صفاء هو اسم لإحدى بطلات الرواية فانطلقت أضحك بدوري. وطبعا ضحكت هي ثم قالت «الله يكون في عونكم.. أنتم مجانين». [email protected]