يعتبر الطهي فناً من الفنون. والطعام الشهي مهم لدى غالب الشعوب، فالطعام مرآة حضارية وثقافية. يقول الصينيون «لا تثق بمن لا يحب الطعام»، ويتحدث العرب عن «الخبز والملح» الذي يربط الناس. ويتحدث الإنجليز عن «كسر الخبز سوياً» كرابطة اجتماعية. ويؤكد الفرنسيون أنه لا توجد ساعة أكثر دقة من بطن الإنسان الجائع. ولا تخلو أمثال أي شعب في العالم من إشارات لأهمية الطعام. والطعام رمز للحياة والمطبخ في تفسير الأحلام يشير للمعيشة فلا تستقيم بدونه. وتفتخر الشعوب بموائدها، فالإيطاليون يؤكدون أن طعامهم وليد الإمبراطورية الرومانية العريقة وهم يتباهون ببساطته السحرية التي تجعل من أبسط المكونات كرنفالاً للعين والفم والأنف – وكثيراً ما يردد أصدقائي الإيطاليون بأنهم لم يستطيعوا غزو العالم عسكرياً وإنما غزوه بالباستا والبيتزا. ويعتز الإيطاليون ليس فقط بأطباقهم بل وبمنتوجات أرضهم، لدرجة أنهم لا يستسيغون طعامهم إلا بمنتوجاتهم المحلية. فلدي صديقة سويسرية متزوجة من إيطالي حدثتني بأن أهل زوجها الإيطاليين حينما يحضرون لزيارتهم من نابولي فإنهم يأتون بسيارتهم محملة بصناديق الطماطم الإيطالية وزجاجات زيت الزيتون والريحان وجبنة الموزاريلا الأصلية التي لا يجدون لها مثيلاً في أي مكان في العالم. وأما اليونانيون فيؤكدون أن طعامهم يليق بالرموز الميثولوجية الإغريقية فهو غذاء للروح ودواء للجسد – وهذا يتوافق مع ما أثبتته الدراسات الطبية بأن طعام دول البحر المتوسط الغني «بالسوبر فودز» مثل الثوم وزيت الزيتون والمأكولات البحرية والخضروات والبقول والأعشاب الطازجة من أفضل أنواع الطعام المكافحة للسرطانات – وفي قبرص جزيرة أفروديت الصغيرة يعتبر الطعام رمز الترف بمنتوجاته المحلية عالية الجودة بل ويؤكد القبارصة أن المتوفين يشاركون الرموز – مثل ميرا وأكيلس وجوبيتر وأبوللو – التمتع بالموائد الخالدة. وأما الفرنسيون الذين يعتبرون أنفسهم أسياد المائدة العالمية – بلا منازع – كما تقول صديقتي الفرنسية نتالي – فهم يتباهون بأن لديهم أكثر من 400 نوع من الجبنه – أكثر من أيام السنة! ويدعون استحالة أن ينافسهم منافس في فن «الجاسترونومي» الرفيع ولا حتى بإنتاج خبز باجيت واحد. ومن يشك في ذلك ربما يجب عليه زيارة أي مخبز في فرنسا والوقوف فقط عند الباب ليدوخ بعبير المخبوزات الشهية. ومن يدرس فن الطعام أو الهوتيليري يستوعب أهمية التأثير الفرنسي في إبداع ما نتناوله باستمرار مثل البشاميل والجراتان والبيتي فور والباتون ساليه – بل وفي تسميات لها علاقة بالطعام مثل «الآكارد» و«كوردون بلو». ويتنافس الفرنسيون فيما بينهم بأطباقهم الإقليمية فأهل بورجوني يتباهون بالبيف بورجينيون وأهل اللورين يحتفلون بالكيش وأهل مارسيليا بالبويابيس وهكذا. والفرنسيون رواد النوفل كويزين وكمياتهم صغيرة مما يفسر رشاقة أغلبهم. فعكس الحلويات الأمريكية مثلا التي تأتي في حجم صاروخي مثل معظم الوجبات الأمريكية – تأتي الحلويات الفرنسيه في حجم ربما يؤكل بلقمتين ولكنهما لقمتان ساحرتان فاتنتان رائعتان. وأما الصينيون فيقولون إنهم بدأوا فن الطبخ قبل 500.000 عام ومازالوا أسياده. ويفتخر الصيني بأنه لو هاجر إلى أي مكان في العالم سواء كان نيويورك أو زيمبابوي فإنه يستطيع أن يفتح مطعما صينياً وسيأتيه زبائن. وغنى شعراء الصين قصائد مدح في الطعام كما مدح قدماء العرب موائد الخلفاء. ونظراً لكبر رقعة الصين الجغرافية ومناخها المتباين فمنتوجاتها متعددة ولكل منطقة ما يميزها في الطهو فهناك مطبخ بكين وشنغهاي وششوان وكانتون. ورغم أن الكثير من الناس يتندرون على الصينيين قائلين بأنهم يأكلون كل ما يطير إلا الطائرات وكل ما يسبح إلا الغواصات وكل ما له أربع أرجل إلا الطاولات والكراسي – إلا أن بعض أصدقاء لي من الصين أكدوا لي أن ثقافة أكل كل شيء هذه كانت تكنيكاً للنجاة فُرضت على شعب هائل العدد واجه الكثير من الحروب والفيضانات والجفاف والزلازل والتايفون – فإطعام ما يقارب ربع سكان العالم ليس بالأمر اليسير. وفي العالم العربي تشتهر بعض الدول بفن تحضير الطعام وتنوعه – مثل دول البحر المتوسط الغنية بالمنتوجات الطبيعية الجيدة – فلبنان مثلاً يفتخر بالمازة الصحية والشهية وبما أن منتوجات دول البحر المتوسط الزراعية تتشابه فالأطباق المحضرة تتشابه أيضاً – فمثلاً ورق العنب يسمى بأسماء عديدة، ففي الأردن هو ورق دوالي، وفي اليونان وتركيا دولما، وكل دولة تدعي أن لديها أفضل طريقة لتحضيره، فبعض الأتراك يضيفون إليه الزبيب والجوز مثلاً – وطبق الحمص يتنافس في تحضيره اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون والأردنيون واليونانيون والقبارصة والأتراك – وياللحزن أصبح الإسرائيليون الآن يدعونه لأنفسهم كطبق قومي هو والفلافل والتبولة! وأما بريطانيا فهي مشهورة بطعام من نوع آخر لا يمكن إيفاؤه حقه بالكلمات وليس من رأى كمن سمع. ورغم عشقي للبريطانيين في مجالات أخرى – فإن طعامهم في الحقيقة ليس له مثيل. فاليورك شاير بودنج – والكيدني باي – والفيش آند تشبس – والببل آند سكويك – والبينز أون توست – والتود إن ذا هول – وغيرها من الأهوال هي التي دفعتني لتعلم الطبخ بأسرع وقت ممكن – جزى الله والدتي خيراً فهي طاهية ماهرة ذات وعي صحي – لحقتني بوصفاتها فاستطعت النجاة من عجائب الطعام البريطاني – مع الاعتذار الشديد لأصدقائي البريطانيين.