قد يبدو من المستغرب ان اكتب عن العادات المتبعة في الطعام رغم جميع الاحداث التي تعصف بالمنطقة. لكن ومن ناحية أخرى فان هناك صلة لهذا الموضوع بهذا الصدد. من ضمن المهام المبهجة في عمل السفير هو انه كثيرا ما يدعى الى العشاء في كثير من البلاد المختلفة. وهذا بالطبع مصدر للسعادة في اغلب الاحيان ، ليس فقط بسبب الالتقاء باشخاص مثيرين للاهتمام ، بل ايضا بسبب الفرصة الّتي تتاح لمقارنة الطّرق المختلفة الكثيرة لثقافات مختلفة تكتنف مثل هذه المناسبات. هناك اختلافات حتّى في الأدوات الّتي تستخدمها الشعوب لتناول الطعام ، فاستخدام العيدان الصغيرة بمهارة لتناول الطعام يعتبر جزءا اساسيا اذا تسلمت منصبا في اليابان أو الصّين. في بريطانيا ، تكون ملاعق الحساء مستديرة عادةً، بينما في اماكن اخرى – وحسبما لاحظت – فهي كمثرية الشكل مثل الملاعق الاخرى. ومن آداب المائدة في المملكة المتّحدة انه عند إنهاء الحساء يجب إمالة الطبق حتى تتمكن من غرف القطرات الاخيرة من الحساء. مثل هذه الطّريقة قد تزعج الآخرين في بعض البلدان الأخرى. عند اعداد الموائد على الجانب البريطانيّ من القناة ، توضع الشوك عادةً على المائدة بحيث تكون اطرافها المسننة إلى أعلى. اما في فرنسا فالعكس هو الصحيح. كما توضع الأكواب في بريطانيا الى الجانب الايمن للشخص ، أما في فرنسا فتوضع في الوسط. في بريطانيا نتناول الجبن بعد الحلوى ، اما في فرنسا فيؤكل الجبن قبلها. وفي بلادي، ليس من آداب المائدة ان تضع يديك على المائدة أثناء تناول الطّعام. أما في فرنسا، فعندما لا تكون يداك مشغولتين بتناول الطعام ، فمن المتوقّع أن تكونا ظاهرتين للعيان على المائدة. ولو عدنا الى الوراء في عمق التّاريخ لوجدنا ان الهدف من ذلك هو ان تبين لشركائك الملتفين حول مائدة الطعام بأنّك لا تمسك سكّينا أو سيفا أو مسدّسا تحت المائدة بنيّة الغدر والحاق الضّرر باولئك الّذين يشاركونك في التهام الطعام. وفي بعض البلاد، يتناول الناس طعام العشاء مبكّرًا ثمّ ينشغلون في احاديث السمر والقيل والقال حتى الساعات الاولى من الصباح. وفي بلاد اخرى ، تجد من النادر أن يجتمع الناس حول المائدة قبيل منتصف اللّيل. ويعتبر العشاء في وقت متأخّر من اللّيل جزءا من الثّقافة الأسبانيّة. اما في المملكة العربيّة السّعوديّة فانني استمتع بتجمّع الضيوف العفوي واحتساء فناجين القهوة الصّغيرة العبقة بنكهة الهيل وبسيل الاحاديث الشيقة التي تدور قبل تناول الوجبة ، مما يجعلك تفترض بان ثمة محاولة لحلّ جميع مشاكل العالم قبل التّمتّع بما لذ وطاب من الطعام ، بدلاً من تناول العشاء وما يزال رأسك مشغولا بتلك المشاكل. فما هي الدروس المستوحاة من هذا الأمر؟ أولا، لا يوجد معيار واحد محدد لمعرفة ما هو الصواب. ومن غير المعقول الإصرار على أن تكون عادات الأكل في جميع أنحاء العالم مماثلة لعاداتنا في لندن. وبالأخص حينما يكون بوسعنا الاستمتاع بالتنوع و الاختلاف الذي نشهده في العالم و بالطرق المتعددة التي تطورت بها العادات في الثقافات المختلفة. إلا أن هناك قاسما مشتركا يجمعنا : جميعنا نحتاج إلى الطعام لنستمر في الحياة. ثانيا، إن عاداتنا في الأكل تشكل جزءا جوهريا من شخصيتنا. فعندما يتم تعيينك كدبلوماسي في دولة أخرى، أول سؤال يطرحه عليك أصدقاؤك هو : ما الطعام الذي يتناوله الناس هناك؟ وكأن جواب هذا السؤال سوف يعطيهم فكرة عن طريقة تفكير الشعب هناك أو حتى عن سياساتهم. تشهد عادات الأكل تغيرا دائما، ففي صغري كان طبق السمك و البطاطس الطبق الوطني الرئيسي دون منازع ، بينما لم يكن طبق معكرونة السباغيتي مألوفا لدينا وكنا نجد الطعام الهندي نادرا وغريبا بعض الشيء. أما الآن فقد باتت العولمة و أنماط المهاجرين تعني أن طبق التندوري تكا ماسالا هو المفضل لدى البريطانيين! كما أصبح بإمكاننا الآن الاختيار بين الطعام الهندي أو الصيني أو التايلندي أو حتى الإيطالي.... ثالثا، إن وظيفة الدبلوماسي تملي عليه فهم الآخرين وفهم طرق اختلاف الثقافات و الشعوب عن بعضها البعض، سواء كان ذلك حول مائدة الطعام أو بعيدا عنها. فعندما أكاتب دولتي، أشعر وكأن الترجمة باتت تشكل جزءا أساسيا من وظيفتي حتى يفهم شعبي وجهة النظر المختلفة للعالم من منظور البلد الذي أعمل لديه. وأخيرا، أجد أن التحدي الحقيقي الذي نواجهه هو الحفاظ بشكل متوازن على تقاليدنا (وتقبل أنها سوف تتطور مع الزمن) و احترام و تقدير تقاليد الشعوب الأخرى، وبالأخص في عصر العولمة الحالي الذي يفرض علينا التواصل مع العالم من حولنا وعدم التقيد بحدود دولنا. * السفير البريطاني لدى الرياض