- 1- أتذكر كمن يبصر في ليل. قنديله حلم صغير يتراقص في الظلام يتحول إلى ظلال كبير على الجدران، والأحلام، والماضي الأخضر. كنت شاباً صغيراً، مراهقاً يلتمس أولى رعشات الوقت والجسد. كنت كذلك وكنت أمر خفيفاً مثل سحابة على كل شيء كنت صغيراً ولذيذاً مثل خبز أمي عند الصباح وكان قلبي كتلة من الحركة والضجيج، وحنجرتي غابة. أريد أن ألتهم خبز أمي الذي هو جسدي.. أنا. وأريد أن أضع كل شيء في قلبي الذي هو وجودي. وأريد أن أحول كل شيء إلى أغنية هي حنجرتي. فشلت أحياناً ونجحت أحياناً كثيرة. لكنني كنت مستمتعاً بما أفعل. كنت شتاءً يرتعش من أجل عيني امرأة - أُمء. وصيفاً يحترق من أجل لمسة امرأة - أُمء. كنت صوتاً وصدى. وكنت مدللاً لكل شيء.. السماء لم تبخل علي، والأرض، وكذلك البشر في كل رف وجدت حناناً، وفي كل شارع وجدت قصيدة، وعلى كل شباك وجدت همسة عاشق ألهمتني لكتابة أكثر الكلمات دهشة في حياتي. وكنت أكتب بعنف وبوحشية كأنني أنتقم من أوراقي. ألم أقل لك كنت شاباً. كان ذلك ربيعي الثامن عشر. وكنت أخضر بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى وحقول. كنت أستمع إلى أغنيتي الأولى، وأنام عليها حتى تحتويني السحابة أكثر فأكثر حلماً أبيض وادعاً فأنام مؤمناً بسحر الأشياء الصغيرة! .... .... وأستيقظ على عينين تشبهان عيني أمي.. شعرها، ورمانها، وصحوها، وضبابها، وجموحها حين تقرأ الوجوه والشفاه والكلمات حتى قبل أن تخرج. وأستيقظ كمن لم يستيقظ.. ما زلت حالماً أغرق في البحر ولا أحب النجاة. يا لبحر عينيك أيتها القصيدة الأولى حين كنت من لحم ودمء. ... ليلء.. والحنين اللعين يقد قلبي من قبل ومن دبر. وأمامي المسافة خضراء لا يلبدها سوى مطر خفيف.. مطر حنون يطرق القلب قبل النافذة. وأفكر. أظل أفكر أنحت رأسي بحثاً عن مفردة جديدة. وقد كان ربيعي يهب حتى يملأ السموات والأراضيين. أخضر أخضر أكثر خضرة مما عرفته الألوان نفسها. ومن كل بستان قطفت زهرة حتى شعرت بأنني جاوزت الحد أو تماديت، وقبل كل شيء أنا. - 2- هل من المستحسن أن تأتي متأخراً؟.. تسأل نفسك ولا شيء معك في هذا الليل سوى ضوء شمعة صغيرة. تظل تحميها من الريح كي لا تذهب مع الريح. أيتها الشمعة ليتك تضيئين في قلبي لتعرفي كم كان هنالك زهور لم تعرفها الطبيعة بعد.. بل لم تخلق لسواي.. بل سر صغير يشمي على قدمين. أحرسك وأفكر في قصيدتي الثانية. أكانت سديماً قادماً من خلف الغيوم. ضباب لا تعرفه. تعشق الضباب لأنه يريحك ويجعلك في عهدة القدر وبعدها لا تستطيع أن تلوم نفسك. تفكر كيف بدأت تتعلم أن تسقي قلبك من ملح عينيك. لقد كبرت قليلاً وأصبحت تصغي إلى صوت الشوارع المذبوحة. أصبحت أكثر حساسية وشغفاً لتشعر بالأشياء من حولك. لتؤثر عليك وتؤثر عليها. ما زلت تركض في ربيعك الذي قلت انه لن ينتهي إلا بعد قرن من الزمان لأنك ستظل حياً إلى الأبد. كانت تلك أيامك الذهبية. كان شعرك سيالاً ومتدفقاً. كنت أميراً في الحب ولا يوجد لديك سوى قصيدة هادئة تظل تحرسها بعيداً عن الريح والغرباء. أكانت شمعة أم ضباباً؟.. لا تعرف.. لكن المهم أنك كنت تحرسها. مثلما ما تحرس كل أسرارك الصغيرة في داخلك حتى لا يكتشفها أحد. كنت رجلاً صغيراً.. تعلمت الحب بعنف، والكره بعنف، وأصبحت لديك أفكارك الخاصة، وتصوراتك الخاصة للأشياء. بدأت تتكون من جديد. كيف يمكنك أن تقولها لأنك تأخرت كثيراً وسمعت كثيراً وقررت أن تفتش في ليل وحدتك عن شيء يجعلك حياً. بعد غياب طويل.. طويل تعود.. مثل النهر حين يصطدم بالحجارة الضخمة فيقرر العودة إلى مكانه بحثاً عن يقين. - 3- قصيدتك الأولى وقد تكون الأخيرة.. مهبط ، حلمك الذي لن تستيقظ منه إلى الأبد. جمرتك الحنونة يا موسى العشق الذي لن تفرق بين التمرة والجمرة.