لكل منا ذكريات ومواقف مع معالي الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- ولا بد أن نذكرها هنا بعد وفاته للتعريف أكثر بمنهجه للأجيال القادمة.. ولاشك أن الحزن العميق الذي عم المملكة العربية السعودية يدل على عظم تأثير هذا الرجل وأنه كان ملء السمع والبصر، فهناك من يغار من نجاحه وبروزه وبالتالي يكره نجاحه، وهناك من يستاء من استقلاليته وشخصيته ونظافة يده وتواضعه وبعده عن المظاهر، في حين لا يستطيع البعض من مكافحة دودة الكبر والتعالي والفوقية فينزعجون من بساطته وحب الناس له وهناك من يغتاظ من وطنيته وحبه لولاة أمره وتاريخ أسرته وعلاقتها مع البطل الموحد الملك عبد العزيز -رحمه الله- وأبنائه من بعده ويرى في وطنيته تعزيز الوطنية في نفوس الأجيال فيكثر اللمز والإساءة له، لأنه وطني وهناك من جبل على كره أي إنسان وطني يحب المملكة العربية السعودية وما قدمه ولاة الأمر حفظهم الله لهذا الوطن من عطاء وتنمية.. ولهذا لا بد أن أذكر أمورا أثرت في شخصيتي من خلال تعاملي أو قراءاتي أو تواصلي مع د. غازي القصيبي -رحمه الله-. حيث كانت البداية حينما كنت طالبا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وأعمل متعاونا في المساء في جريدة الرياض من عام 1400 الى عام 1404 للهجرة، وأذكر أنني أشارك بالكتابة في زاوية أوراق محرر بمقالات حادة نسبيا ضايقت بعض المسؤولين في رعاية الشباب ووزارة المعارف آنذاك وأمانة مدينة الرياض وغيرها من الأجهزة الحكومية.. وكان من الجهات التي تعرضت لها أحد الأجهزة المسؤول عنها د. غازي القصيبي، فأرسل لي رسالة رقيقة بخط يده يرد على إحدى مقالاتي، ولا أنسى نشوتي وسعادتي بالخطاب وأنا أرفعه في وجوه زملائي المحررين مفتخرا بخطاب القصيبي وأسلوبه، وهو الذي لا يعرفني وكأن الخطاب كتب لرجل في الأربعينيات من عمره مثلا ولهذا بقي هذا الخطاب له أثره في منهجي الإداري وتواصلي مع الناس ومحاولة التباسط معهم في المسؤوليات التي تقلدتها في مجال العلاقات العامة والإعلام وهو منهج القصيبي في أخذ ملاحظات ورؤى واتصالات الناس بعين الاعتبار والأهمية.. وهو منهج لا يقدر عليه إلا الصفوة من الصفوة من الناس الذين نذروا أنفسهم لخدمة الناس ومساعدتهم، وأرجو أن أكون منهم ولو بنسبة قليلة، وهو أمر أترك الحكم عليه لغيري، ولا شك أن مجاراة القصيبي كانت صعبة ولكني تلميذ في مدرسته، ومن ذلك الحرص على ما أمكن في عدم ربط اللقب العلمي في الخطابات التي اكتبها في عملي كون العمل الذي أقوم به ليس أكاديميا وإنما وظيفة حكومية أخرى.. وتابعت جهود القصيبي الخيرية في تأسيس جمعية المعوقين ووضع منهج إنساني في عبارات وإذا مرضت فهو يشفين وتهنئة كل من يرزق بمولود بخطاب ومعه قائمة بالأسماء الجميلة ليضع له خيار الاختيار.. وانكببت على قراءة كتب وروايات القصيبي المختلفة والمنوعة كشقة الحرية وسحيم والعصفورية وحياة في الإدارة وكتبت عن الجنية والمواسم مقالين وقلت عن المواسم بأنه أجمل ما قرأت وأتمنى أن يكون حياة في الإدارة والمواسم مقررين على طلبة الثانوية في المملكة؛ لأن الكتابين مدرسة في الإدارة والوطنية والنزاهة والإنسانية والتواضع.. وجاءت حرب الخليج لتكشف لنا المواطن غازي القصيبي ومرحلة عين العاصفة وأجل نحن الحجاز ونحن نجد فلم يجاره أحد وكان قلمه صادقا وشعره وطنيا مؤمنا بعقيدة الإسلام ووحدة الكيان وزرع في كل مواطن سعودي الولاء والحب في الالتفاف حول القيادة والولاء لها بينما كان هناك في الطرف الآخر من يزايد ويستغل الموقف بأطروحات تلبس لبوس الدين وهي خبيثة تحاول المس من وحدة الكيان وإرباك القيادة.. ودخل د. غازي في حوارات حتى لا تكون فتنة وكان في البحرين ورسالته حينها ثم جاء للرياض وقابلته في منزل أخيه في حي الملز وأجريت مقابلة مطولة نشرت في «عكاظ» وكان أول لقاء مطول لي مع معاليه فازددت إعجابا به وكتبت له رسالة مطولة جدا أكثر من عشرين صفحة موجودة صورة منها لدي أراجعها الآن فاستغرب كيف كتبتها وكانت تحمل الهم الوطني والرغبة في تطوير الوطن وتلمس ما يريده ولاة الأمر وهموم النظرة الفوقية الشاذة التي تفشت آنذاك وما يكتبه غازي القصيبي عن التقسيمات بين العوائل والأسر ومبالغة البعض في إكسابها مشروعية الحكم على الأشخاص بخلاف صريح لمنهج الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- وأبنائه من بعده ومنهج الإسلام في معاملة الناس بسواسية وتبقى الجدارة والكفاءة هي الأساس وجاء رد معاليه كالعادة مشجعا وموجها ومعه شريطه الذي سجله للرد على من وقف ضده ليدخل معهم حرب الكاسيت لثقته بنفسه ووجود المحبين والمؤيدين له... وسافر إلى لندن وسافرت في زيارة هي الأولى وكانت زيارة شخصية إلى لندن وتعودت أن أزور السفارة في البلد الذي أزوره فكيف إذا كان السفير هو أستاذي غازي القصيبي وذهبت وسلمت عليه وأخبرته بأنني أرغب إجراء فحوصات طبية في مستوصف لندن الشهير فأرسلني للمستشفى وفي الطريق طلب من السائق أن يسلمني ظرفا قال بأنه هدية شخصية من معاليه فأنا في مدينة غالية وربما أحتاج المبلغ وكان المبلغ على ما أتذكر (خمسة آلاف جنيه إسترليني) وأذكر أن عيني دمعت لأن ظروفي المادية آنذاك كانت صعبة جدا وعلي بعض الديون واستغربت كيف أحس بي هذا الرجل وأنا لم أطلب منه شيئا؛ وهنا يكون للعطية قيمة حينما تأتي كرما وتلمسا لظروفك وليس طلبا وإلحاحا وإذلالا منك لمن تطلبه ثم قابلته بمعية د. محمد الرشيد وزير التربية والتعليم السابق وكنت مرافقا للوزير الرشيد حيث أعمل معه آنذاك من 1416 الى 1418 وكان اللقاء في مكتب السفير في لندن وكنت أعجب من الرجلين وثقتهما بي وهما أساتذة لي حينما جلست معهما أشارك في حوار وطني صادق وصريح حول مختلف القضايا الوطنية وكان مفيدا وثريا لي.. وكتبت مقالا بعنوان فهد وفهد عن مذكرات معالي الأمير فهد السديري أمير نجران السابق وعن قصة دخول الكهرباء لقرى وهجر ومحافظات نجران أثناء عمل القصيبي وكيف كانت المولدات هي الموجودة وكيف حرص السديري على إقناع القصيبي بأهمية المشروع وكيف اتصل القصيبي برجل التنمية الملك فهد -رحمه الله- ونقل له المشروع وصعوبته ثم تعميد الملك فهد للوزير محمد أبا الخيل باعتماد المشروع المهم الذي نفع نجران وأوصل الكهرباء لكل قراها. وهكذا قصة التنمية يقودها رجال مخلصون وهو ما ميز القصيبي -رحمه الله- الذي يعود نجاحه بالدرجة الأولى في مجال التنمية والإدارة إلى ولاة الأمر، الذين وثقوا بإخلاصه وأمانته ودعموا مشاريعه وأفكاره التطويرية لإيصال الكهرباء لكل مكان وبناء المدن الصناعية ومشاريع وخطط برامج الصحة والماء والعمل بداية بالملك خالد ثم الملك فهد -رحمهما الله- ومرورا بالملك عبد الله عندما كان وليا للعهد ثم ملكا للبلاد وسمو ولي عهده الأمين الأمير سلطان وسمو النائب الثاني الأمير نايف -حفظهم الله- فكان النجاح تلو النجاح في مسيرة القصيبي الإدارية والتنموية.. وعندما سكنت في منزلي الجديد قبل أربع سنوات كتبت مقالا في جريدة الحياة بعنوان (غسال الفناجيل) موجودا في كتاب كل شيء ينمو جاءت رسالة رقيقة منه يهنئ بالمنزل ويعلق على غسال الفناجيل ويعتذر عن حضور النزالة وكان غازي القصيبي مختلفا عن الجميع؛ فهو نادرا ما يرتبط بمناسبات وولائم وقد دعوته عدة مرات واعتذر بأنه يحب القراءة ولا يرغب بالمناسبات، وهذه صفة يعرفها أصدقاؤه ومحبوه وكتبت عن السعودة عشرات المقالات وكنت قد طرحت ذلك في حلقات السعودة عبر دعوة للحوار في التلفزيون السعودي في سلسلة حلقات في عام 1416ه وأرسلت لمعاليه بعض الأفكار حولها وأهمية التعليم واللغة الإنجليزية والتقليل من العمالة الوافدة فكان يتعامل مع كل خطاب واقتراح بمنتهى الشفافية والوطنية حتى أرسى دعائم توظيف السعوديين بالشكل الذي يجعلها تنطلق بإذن الله. وأخيرا، مات غازي القصيبي -رحمه الله- وأعتقد أن منهجه الإداري والإنساني ينبغي أن يكون قدوة للمسؤولين في التعامل والجدية والانضباط والإخلاص في العمل، وأتمنى أن يعقد معهد الإدارة ندوة كبرى يحضرها المسؤولون التنفيذيون والمختصون بالإدارة لمناقشة فكر ومنهج القصيبي الإداري وكيفية تعميمه على الموظفين.. كما أقترح إنشاء مؤسسة كبرى باسمه تليق بعطائه على غرار مؤسسة حمد الجاسر -رحمه الله-. مات القصيبي وسيبقى أثره الفكري والإنساني والثقافي والأدبي. وهنا أدعو الله لخلفه معالي المهندس عادل فقيه بالتوفيق في مهمته الكبرى وهو أهل لها بإذن الله لسجله المشرف في الإنجاز في تجربته الوظيفية في القطاع الخاص والعام.