بين عشية وضحاها تحول حي الكرنتينة الذي كان يعرف قديما بأنه منطقة «الحجر الصحي» بجدة، إلى ساحة لا تتوفر فيها أي مقومات الصحة، ولا تتناسب لا مع الاسم ولا المضمون. وكانت «الكرنتينة» قديما تطلق بمدينة جدة على منطقة الحجر الصحي بجوار ميناء جدة الإسلامي، حيث يتم حجز الحجاج المصابين بأمراض معدية القادمين من خارج المملكة عبر البحر لتقديم الرعاية الصحية لهم. وأنشئ بعد ذلك ما سمي «مستشفى المحجر الصحي» الذي تحول موقعه إلى مستشفى الملك عبدالعزيز جنوبجدة، وكانت الكرنتينة قديما «كلمة إيجابية» وأحد رموز جدة، لأنها تعني الاهتمام برعاية الحجاج الصحية وحجر المصابين وتقديم الرعاية اللازمة وتوفير الكوادر الطبية المختصة لرعايتهم. وما حصل بعد ذلك هو انتقال الكرنتينة إلى مستشفى المحجر الصحي تحول موقع الكرنتينة القديمة مع مرور الأيام إلى حي سكني أصبح فيما بعد عشوائيا يكتظ بالمخالفات والعمالة السائبة والمجهولة والأفريقيات اللاتي لا يستطع الابتعاد عن الحي الغريب. الكرنتينة مجموعة أحياء في حي واحد، تجد فيه كل شيء، أزقته تختلف عن بعضها، فهناك بيع عشوائي وفي المكان الآخر ملابس مستخدمة، وبعدها بقليل مكيفات وأجهزة تهوية، وأطعمة ومشروبات. محمد فقيه «أحد سكان الحي القدامى» شرح ل«عكاظ» بمرارة عن حال الحي والوضع الذي آل إليه، والشاحنات التي تعرقل السير وتغلق الطريق تماما كل يوم، وقال: «بعد أذان المغرب مباشرة يأتي سرب من الشاحنات للوقوف في الحي بطريقة عشوائية، وبعيدا عن موافقة الأهالي أو الجهات المسؤولة، ولكن من أمن العقاب أساء الأدب، فبالرغم من المخالفة الواضحة للعيان إلا أنها مستمرة منذ سنوات عديدة». سألناه: من أين تأتي الشاحنات؟ فأجاب: «بعضها يعمل في المصانع التي تملأ الحي، وبعض السائقين في مصانع أخرى من خارج الحي، ولكنهم يسكنون مع بني جلدتهم داخل حي الكرنتينة الذي أصبح ملاذا للعمالة الوافدة وسكنا آمنا للمخالفين». وأضاف: «في الكرنتينة شارع يطلقون عليه «البلدية» يتميز بتركيبة سكانية خاصة ونشاط خاص يطلقون عليه هذا الاسم، لأنه كان يضم عددا إلى من الأحواش الخاصة بالبلدية، وهناك «المليباري» شارع آخر نسبة لأحد التجار القدامى الذين عملوا فيه، وشارع ال «القورو» لأنه يستقبل عددا كبيرا من باعة القورو، وحارة «المصاوعة» التي كانت تستقبل الحجاج القادمين عبر ميناء مصوع في إيريتريا، وهناك في جنوب الحي شارع يسمى «الفحم» لكثرة باعة الفحم، وبرحة «المكسورة» نسبة لمنازل كانت في نفس الموقع قديما وتم هدمها، وهذه المسميات مسميات محلية ابتكرها السكان هناك منذ عدة سنوات». ويصف فقيه شارع القورو بأنه قلب الكرنتينة النابض، ففيه حركات تجارية نشطة ترتكز على تجارة القورو وهي ثمرة تشبه الليمون في شكلها وحجمها تحتوي على مركبات فعالة من الكافيين ومواد تستخدم بدعوى زيادة النشاط البدني، وموطنها الأصلي غرب أفريقيا، تدخل للمملكة عبر وسائل تهريب متنوعة وتجد إقبالا كبيرا من الأفارقة وغيرهم، حيث يجوبون في أوقات الظهيرة المكان يتنقلون من بائعة إلى أخرى بحثا عن أجود الأنواع وأرخصها حيث يبدأ سعر الواحدة ب 10 ريالات وتصل إلى 30 ريالا، شارع القورو هو أحد الشوارع الحيوية ففيه تنوع أنشطة المتخلفين وتتعدد، وأحد أهم الأعمال التي تتم بجانب بيع القورو هو تنظيم عمليات التسول وتحريكها فهناك في أحد زواياه تتجمع أعداد كبيرة من المتسولين بعاهات مختلفة تديرهم جهات منظمة - حسب رأي الأهالي. ويشير إلى أن شارع البلدية أو شارع الغسالين هو البوابة الرئيسية للكرنتينة ومقصد الكثير من الناس، فهناك مقر للعمال الذين يغسلون السيارات وهو صداع مزمن للحي، فعمليات الغسيل تكون بشكل عشوائي وتتسبب في انتشار المستنقعات المائية التي تخلفها تلك العمالة المتخلفة وزحام خانق يغلق المنافذ الموصلة من وإلى الحي. ويستغرب محمد نصر الله العسيري ما اعتبره صمت الجهات المختصة من الوضع الحالي في الحي، مطالبا بسرعة التحرك للقضاء على الظواهر المزعجة وغيرها والمنتشرة بشكل علني في الحي. وأفاد بأن بعض الجهات المختصة تتحاشى دخول الحي والاحتكاك بسكان الكرنتينا، لمنعهم من ممارسة المخالفات، فقد حاولت عدة جهات، إلا أن إصرار المتواجدين على البقاء في الحي يدفعهم للعودة مرة أخرى، وكثيرا ما وقعت اشتباكات بين العاملين لا تفضها إلا الجهات الأمنية، وابتكروا تنظيما جديدا يكفل لهم العمل دون مشاكل حيث قاموا بتقسيم أنفسهم إلى عدة مجموعات يرأس كل مجموعة واحد منهم بالاتفاق يتولى تنظيمهم وإنهاء أي مشكلات تظهر أثناء العمل، إضافة إلى أنه يقوم بمتابعة عمليات التنظيف في نهاية اليوم. ويشير ناصر محمد الكدمي إلى مظهر لاقطات العلب من النفايات، والذي بات مألوفا، وكذلك الخبازات اللاتي يجففن الخبز تمهيدا لبيعه، وجامعات الكراتين، كلهن فئة تسكن في الحي ويبعن فيه ويتعاملن بأريحية كاملة حيث يجدن أنفسهن بلا حسيب ولا رقيب. وأضاف الكدمي أن في الحي مستودعات كثيرة، بعمالها لحفظ المأكولات والمعلبات والأحذية وغيرها، يستأجرها أصحابها بمبالغ قليلة ويمارسون فيها التخزين وحفظ الألعاب وما إلى ذلك. ويعتقد الكدمي أن الحي تحول إلى «مرمى نفايات» شهير، ترمى فيه نفايات جدة كاملة، مكونة كتلة جبلية من النفايات التي تنبعث منها روائح كريهة جدا لا تستطيع تحملها، وبالرغم من تعدد الشكاوى من أجل نقل مرمى النفايات خارج نطاق العمران إلا أن أحدا لا يستجيب. وأضاف أن العمال في مرمى النفايات ينقبون فيه، لفصل المواد البلاستيكية عن المواد الورقية وهكذا من أجل الاستفادة منها، متجاهلين الفترة الطويلة التي تتكدس فيها النفايات في الحي ما يتسبب في تسرب مياه متسخة مخلوطة بالنفايات تتسرب في الحي في مظهر غير حضاري. وأفاد الكدمي بأن تجمع الأفارقة بعد صلاة العشاء أمام المطاعم داخل الحي، والدخان المنبعث من عمليات الشواء تتسبب في أزمة أخرى في التنفس إضافة إلى مياه الصرف الصحي التي لا يتوقف تسربها في الحي على مدى سنوات طويلة والنفايات المتكدسة كجبال شاهقة. من جهته أوضح عبدالقادر المغاوري أنه بعد هطول الأمطار الشهيرة في جدة والتي تسببت في كارثة في جدة لا ينساها أهلها قبل ثلاث سنوات تقريبا، وإلى الوقت الحالي لم تتم سفلتة الحي. وأضاف: «تكسر الأسفلت وأصبحت الشوارع ترابية منذ ذلك الحين، ولم يتغير شيء حتى الوقت الحالي، وحين نسأل الجهات المختصة ونقوم بتقديم شكوى يفيدون بأن الحي لن تتم سفلتته لأنه من الأحياء العشوائية التي ستزال قريبا». وأفاد المغاوري بأن الحي أصبح «غير سعودي»" أبدا، بل طغى عليه تعدد الجنسيات المقيمة فيه، وسكانه الأصليون انتقلوا لأماكن أخرى خوفا من اختلاطهم بالجاليات المختلفة واختلاف الثقافات والاهتمامات. ويرى عمر البارقي أن البيع العشوائي عبر بسطات مجهزة أمام المساجد في الكرنتينة ظاهرة ليست غريبة، بل متكررة وأصبحت شبه ثابتة في أماكنها، لا تذهب واحدة إلا وتأتي 10 غيرها، تبيع الملابس المستعملة والأحذية والخردوات والمستلزمات النسائية غير المعلوم أصلها ومصدرها. وقال: «بالرغم من النظام المعروف والذي لا يسمح بوقوف المركبات الخربة داخل الأحياء إلا أن الكرنتينة مكتظ بالمركبات المتوقفة منذ زمن، ليس الصغيرة فقط بل حتى الشاحنات والشيولات الكبيرة التي تقف أمام المنازل والأزقة وبعضها داخل أحواش في الحي وأصبحت ملاذا للمتسولين ينامون تحتها ويخبؤون أغراضهم فيها.