لأول مرة في التاريخ السياسي للولايات المتحدةالأمريكية يتحدث رئيس أمريكي بهذه الشفافية وذلك الوضوح الذي تحدث به الرئيس «باراك أوباما» يوم الثلاثاء الماضي أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ليس فقط عن السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وأوضاع الشرق الأوسط الراهنة وإنما عن المصالح الأمريكية التي تكيف هذه السياسات وتفرضها سواء تجاه الثابت أو المتغير من الأحداث والتطورات.. وكذلك عن التوجهات والنوايا التي أوضح خطوطها العريضة في هذا الخطاب المهم وغير المألوف. •• وبكل تأكيد فإن هذا الخطاب بكل ما أوضحه أو بكل ما انطوى عليه من إشارات قوية سيكون محل دراسة وتحليل عميقين من قبل الدوائر السياسية والأمنية بدول المنطقة.. وكذلك عند النخب المهتمة بمعرفة أنماط التفكير والسلوك الأمريكي القادم بعد أن عبرت عنه إشارات كثيرة من خلال تعاملها مع الأحداث القائمة الآن في سوريا وقبل ذلك في العراق وأفغانستان منذ مجيء الرئيس أوباما إلى السلطة في 20 / 1 / 2009 م.. وحتى ساعة إلقاء هذا الخطاب. •• وإذا لم تحدث مثل هذه الدراسة العميقة وذلك التحليل الواسع لكل الأبعاد والمرامي التي تضمنها فإن ذلك يكون قصورا قد تترتب عليه حسابات مغلوطة لما هو قادم ومتوقع. استراتيجية بعيدة المدى •• بدأ «أوباما» حديثه بالقول: «إن التقلبات الجديدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نموذج على التحديات التي تواجه العالم.. ولذلك فإن على الأممالمتحدة أن تعالج الاضطرابات الداخلية ومنع الصراع الداخلي بدلا من العمل فقط على منع الحروب بين الدول».. وفي هذا الكلام الخطير إشارتان هامتان هما: • أولا: توجيه النقد اللاذع للمنظمة الدولية لعجزها عن التعامل مع أوضاع المنطقة والعالم بإرادة دولية جماعية بدلا من تركها أمريكا وبعض دول أوروبا تتحالف للذهاب إلى أفغانستان والخليج والعراق وليبيا.. وتقف عاجزة عن القيام بنفس الدور في سوريا.. بدل تحمل تلك الدول أعباء ونتائج تلك التدخلات المكلفة بكل تأكيد. والجديد في هذه الإشارة ليس هو اللوم للمنظمة الدولية فقط وإنما التمهيد لما سيدعو إليه بعد ذلك من تدخل مباشر فردي للولايات المتحدةالأمريكية في حسم قضايا المنطقة.. ولكن في حالة واحدة هي تعرض مصالح أمريكا للخطر بصورة مباشرة وليس لأي أسباب أخرى بما فيها تكريس عوامل الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم. • ثانيا: تبرير وتجويز التدخل الخارجي المباشر في الشؤون الداخلية لدول المنطقة في وقت مبكر لمنع وقوع صراعات داخلية بين القوى والأطراف والتكتلات السياسية أو الجهوية داخل أي دولة.. بدلا من التركيز فقط على فض النزاعات بين الدول.. لقناعته بأن حسم تلك الصراعات والقضاء عليها في مهدها بتدخل القوى الخارجية (أمريكا) سيحول بكل تأكيد - من وجهة نظره - دون اندلاع تلك الحروب بين دول الجوار أو بين الدول بعضها البعض وتدخل أطراف خارجية أخرى متحالفة معها.. كما في الحالة السورية ووقوف روسياوإيران وحزب الله إلى جانب نظام بشار الأسد الآن. •• والأخطر من هذا القول بدلالاته السياسية المتعددة هو تساؤل أوباما التالي نيابة عن الشعوب بقوله: «إن التقلبات الكبيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أظهرت الانقسامات العميقة داخل تلك المجتمعات.. والشعوب تتساءل عما سيأتي لاحقا...».. •• هذا التساؤل يشير إلى أن المعلومات الأمريكية تقول إن الوضع في سوريا لن يكون هو آخر المطاف.. وبالتالي فإن أوباما بدا وكأنه يهيئ المنطقة والعالم لقرارات أمريكية من نوع أو آخر ألمح إليها في الجزء المتبقي من حديثه وأجاب فيها على أسئلة كثيرة مثل: متى ستتدخل أمريكا..؟، وهل قضية الديمقراطية هي ما يهم بلاده تحقيقها في المنطقة أم أن هناك قضايا أخرى أكثر أهمية؟، وكيف سيكون التدخل وبأي حجم ومتى يحدث؟.. •• تلك هي استراتيجية أمريكا بعيدة المدى.. تجاه المنطقة.. وكما نرى فإن المضي فيها سوف يتوقف على مدى تحقيقها هدفين رئيسيين آنيين هما: قضية سلاح إيران النووي.. وقضية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. وفي ذلك قال أوباما بكل الوضوح: «إن جهود الولاياتالمتحدة الدبلوماسية ستركز على المدى القصير على قضيتين: سعي إيران للحصول على السلاح النووي والنزاع العربي الإسرائيلي».. قال هذا أوباما وهو يدرك في قرارة نفسه أنه بذلك يدير ظهره للوضع السوري المأساوي الحالي تماما ولحقوق الشعب السوري في الحياة الكريمة وحاجته إلى دعم القوى التي تتحدث عن حقوق الإنسان وعن العدالة والمساواة.. ولذلك فإن أوباما قال مكملا خطابه: «إنني أدرك أن القضيتين ليستا أساس كل مشكلات المنطقة وأنهما تشكلان وحدهما مصدرا أساسيا لعدم الاستقرار منذ زمن طويل».. لكنه يرى أن حلهما سيساعد في وضع أساس لسلام أوسع، وفي ذلك قفز غير موضوعي على الحالة المأساوية الراهنة وتجاهل للواقع المؤلم الذي يعيشه السوريون ليس بهدف تبرير التراجع عن الضربة العسكرية التي تحدث عنها في السابق فقط.. وإنما بهدف الامتثال لحسابات الكسب والخسارة الجديدة التي تباشرها بلاده الآن.. وتمهد لها بالدخول في مرحلة جديدة من التعامل مع دول المنطقة مثل إيران وتركيا ومصر ودول الخليج العربي وكذلك مع الروس والصينيين وغيرهما.. وتلك سياسة جديدة تشكل بها أمريكا ضغطا سياسيا جديدا وغير مألوف على أصدقائها نتيجة تلقيها فيما يبدو عروضا مغرية من قبل الأطراف الأخرى.. أخشى أن أقول إنها غير محسوبة.. لأنها تأتي في إطار المناورات السياسية المتبادلة بين أمريكا نفسها وبين الروس والإيرانيين في الوقت الراهن. غزل أمريكي إيراني ناعم •• فبالرغم من «الجفاء» الذي أظهره الرئيس الإيراني « حسن روحاني » لدى مشاركته في اجتماعات الجمعية العمومية في نيويورك تجاه الوفد الأمريكي وذلك بعدم حضور كلمة أوباما.. أو المشاركة في الحفل السنوي للمنظمة الدولية إلا أن هذا التصرف كان مجرد إشارة إيرانية ذكية أرادت إرسال رسالة قوية بأن إيران ليست حريصة على تطبيع علاقاتها مع أمريكا وهي رسالة غير صحيحة لأن الطرفين ظلا طوال السنوات الأخيرة الماضية على تواصل حثيث بصور مباشرة وغير مباشرة.. وذلك ما أكده أوباما في خطابه هذا.. في قوله: «إن عزلة إيرانوالولاياتالمتحدة عن بعضهما البعض لها أسبابها» التي عددها.. بدءا من اعتقاد إيران أن أمريكا تدخلت عام 1953م لإسقاط حكومة مصدق في عهد الشاه.. وانتهاء بالمواجهة بينهما عقب مجيئ «الخميني» إلى السلطة عام ( 1979م).. ومع أن أوباما يرى «أن تخطي هذا التاريخ الصعب لن يحدث بين ليلة وضحاها»، إلا أنه يرى أيضا أنه «إذا قمنا بحل قضية برنامج إيران النووي فإن ذلك سيشكل خطوة أساسية في طريق طويل لعلاقة مختلفة مبنية على المصالح المشتركة والاحترام المشترك».. •• هذا الكلام الهام وغير المرسل يعبر بكل وضوح عن نوايا أمريكية حقيقية ليس فقط لتطبيع علاقاتها مع إيران وإنما لإقامة علاقات محورية (مختلفة) كما وصفها.. تقوم على (المصالح المشتركة). •• هذا الوضوح تجاوز مرحلة التلويح.. بما تتجه إليه بلاده وهو توجه ليس مفاجئا لدول المنطقة أو لأي مراقب.. ولكن المفاجئ فيه أنه يأتي في سياق الأحداث والتطورات التي تقع في سوريا.. وفي ظروف الشراكة الإيرانية/ الروسية العضوية في الحدث السوري.. وكأنه يجسد بذلك «تفاهمات» من نوع أو آخر أدت إلى تجميد قرار الضربة تمهيدا للدخول في شبه صفقات قادمة حول طريقة إدارة أوضاع المنطقة في المرحلة القادمة وبما يكفل المصالح الأمريكية الأفضل وبما يؤدي إلى تأمين إسرائيل وإن تم ذلك على حساب أطراف أخرى. •• وما تأكد من خلال خطاب أوباما الآن هو.. أن قرار الضربة الأمريكية المعلنة للنظام السوري.. بدا وكأنه حلقة من حلقات الضغط المتبادل بين العواصم الثلاث (طهران / واشنطن / موسكو) للحصول على أفضل العروض والامتيازات في المستقبل.. وأن العرض الروسي الإيراني المبدئي كان مقبولا أمريكيا.. وكافيا للإعلان عن التحول إلى الخيار السياسي.. بمعنى أن النية في التوجه نحو الضربة كانت موجودة ولكن لأغراض سياسية تكتيكية... وإن ما اعتبر بأنه استجابة لرغبة الأغلبية في الكونجرس الأمريكي ليس دقيقا.. وصحيحا وإنما الصحيح هو أنه ضغط حقق هدفا وأن المضي في هذا الهدف إلى ما هو أبعد يتوقف على مدى استجابة إيران بضمانات روسية لتحقيق ما تريده الولاياتالمتحدة وتخطط له.. وإلا فإن التواصل بين إيران وأمريكا قد كان قبل تفجر الوضع السوري بزمن.. أو كما قال أوباما في خطابه: «منذ توليت منصبي أوضحت في رسائل إلى المرشد الأعلى علي خامنئي وأخيرا إلى الرئيس روحاني أن الولاياتالمتحدة تفضل معالجة مخاوفنا من البرنامج النووي الإيراني سلميا وإن كنا مصرين على منع إيران من تطوير سلاح نووي».. •• ولم يكتف « أوباما » بالكشف عن سلسلة الاتصالات المباشرة مع طهران فحسب.. بل إنه قدم تطمينات كافية وعلنية بأن «بلاده لا تسعى لتغيير النظام الإيراني».. بل إنها «تحترم حق إيران في تطوير الطاقة النووية السلمية».. •• بهذه «الجزرة» الجديدة التي تعرضها أمريكا على إيران.. تجاوبا مع المعطيات الجديدة هناك، ومنها تجاوب روحاني مع الرغبة الأمريكية الملحة في التقارب.. فإن أوباما وجه وزير خارجيته «جون كيري» للسعي وراء جهود التصالح مع طهران بالتعاون الوثيق مع الاتحاد الأوروبي، المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وكذلك روسيا والصين كما قال. •• وهذا يعني بمقاييس التحليل الدقيق لما يجري الآن على الأرض.. أن الولاياتالمتحدةوروسيا بدتا متفقتين على إيقاف نذر استئناف الحرب الباردة القديمة بينهما بعد أن لاحت فرص عودتها في الأفق في الآونة الأخيرة في ظل الحروب الكلامية والضغوط المتبادلة.. والعمل معا على تبني استراتيجية يحصل فيها كل منهما على نصيبه من خارطة المنطقة الجديدة بعد تهيئتها وأن هذه التفاهمات لابد أن تعطي دورا ما لإيران فيها. •• والسؤال الآن هو: •• ما هي طبيعة تلك التفاهمات.. وما مدى معرفة دول المنطقة بتفاصيلها وإلى أي مدى تشكل خطورة عليها.. أو تهديدات حقيقية لدولها وشعوبها على المديين القصير والبعيد.. وما علاقة ذلك كله بما ما جرى ويجري في الأراضي السورية اليوم وغدا وبعد غد..؟!.. •• هذه الأسئلة الكبيرة تفرض تحركا عربيا واسعا وقويا ومشتركا ولاسيما من قبل الدول المعنية بالأوضاع الراهنة التي تشهدها المنطقة بصورة مباشرة.. أو بالتحولات المرتقبة إذا ما تأكد لها أن هناك واقعا جديدا تتجه إليه المنطقة.. وأن الهدف من هذا التحرك الفردي أو الجماعي هو الوقوف على طبيعة ملامح المرحلة القادمة حتى لا تفاجأ الدول والشعوب بما ليس محسوبا. إسرائيل هي الهاجس الأكبر •• لكن السؤال الآخر هو: •• ما الذي يدفع أمريكا إلى هذا النمط الجديد من التفكير وهي التي تدرك تماما أن مصالحها الواضحة والمحددة والمعروفة في المنطقة مستقرة ومكفولة وغير معرضة لأي تهديد في أي وقت من الأوقات وفي كل الظروف.. في الوقت الذي لا تستطيع أن تضمن بشكل قاطع هذه المصالح في ظل أي تحالفات أو اتفاقات أو تفاهمات جديدة مع أي شركاء جدد في المستقبل؟.. •• الحقيقة أن من يملك هذه الإجابة هم «الأمريكان» أنفسهم تبعا لحساباتهم وفق ما جرى ويجري في المنطقة وتبعا لطبيعة التحولات المقبلة فيها.. وهي وإن كانت لا تملك ضمانات واضحة وكافية لعدم تعرض تلك المصالح للخطر بالدخول في هكذا شراكات جديدة إلا أنها لا تبدو مطمئنة بدرجة كافية أيضا إلى ما قد تتعرض له هذه المصالح من أخطار في ظل استمرار عوامل التهديد لها من إيران بدرجة أساسية.. بفعل الدعم الروسي المطلق لها.. باعتبارها المدخل الملائم والأداة القوية لعودة النفوذ الروسي إلى المنطقة بعد انحساره عقب انهيار الاتحاد السوفييتي القديم.. •• إنالأمر في مجمله يدل على وجود تغير مهم في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة ومجمل أوضاعها.. وفي رؤيتها للمستقبل المنظور الذي تتجه إليه.. وفي ضوء مخاوفها من «انفلات» الأوضاع بصورة أكبر.. مما دعاها إلى البحث عن الخيارات الأخرى.. في ضوء أسوأ الاحتمالات المتوقعة..(!!).. •• ومن الواضح أن هذا التغير قد ارتهن إلى فرضية تقول: إن الوضع في المنطقة هش للغاية.. وإنه مرشح لمزيد من القلاقل والاضطرابات.. وإن الطرف المحرك لهذه الأوضاع هو إيران.. بما تتخذه من قرارات وما تقوم به من ممارسات على الأرض.. وبالتالي فإن احتواء هذه القوة بل والاستعانة بها في تحقيق سلسلة أخرى من التغييرات تحت مظلتها وسيطرتها ربما يوفر الأمان المطلوب لتلك المصالح.. بدل أن تترك رهنا لظروف خارجة عن السيطرة الأمريكية في المستقبل.. ويكون الروس هم المستفيد الأول من كل ذلك.. •• هذا النمط المغلوط من التحليل للأوضاع هو الذي يوجه البوصلة الأمريكية نحو حسابات أخشى ما أخشاه أن تكون مكلفة لجميع الأطراف بما فيها الطرف الأمريكي نفسه إذا كان يفكر بهذه الطريقة.. وإذا كان يعتقد أن تأمين مصالحه بصورة أفضل وبأقل الخسائر يمكن أن يتحقق بمثل هذا التوجه نحو التحالف غير مضمون العواقب مع روسياوإيران.. لضمان هدوء أفضل ليس فقط في المنطقة العربية وإنما في تأمين سلامة إسرائيل كذلك.. وإلا فلماذا تبدي أمريكا كل هذا «اللطف» مع روسيا.. وهي تريد في الحقيقة كسب ود إيران؟!.. •• صحيح أن الخوف على إسرائيل (أولا) ثم على المصالح الأمريكية (ثانيا) لا يبدو هو كل ما يسيطر على الذهنية الأمريكية ويشكل قراراتها ويصنع سياساتها القادمة في المنطقة فحسب.. وإنما الصحيح هو أن الهاجس الأكبر هو الحفاظ على الهيبة الأمريكية في العالم من جهة.. والفوز بأكبر المكاسب دون التعرض لأي خسائر من نوع أو آخر. •• ومن تابع ويتابع سياسة أوباما منذ جاء إلى البيت الأبيض يدرك أن الرئيس الأمريكي ربط بين نجاحه في السلطة وفرص التجديد له لفترة ثانية وبين تقليل الخسائر البشرية والمادية التي لحقت ببلاده جراء الانغماس في قضايا أفغانستان والعراق وشغب إيران في المنطقة.. وأن عليه أن يخرج أمريكا من هذا النفق المظلم وأن يسحبها من واجهة القتل لعشرات العسكريين الأمريكان الذين يموتون كل يوم ولآلاف المليارات التي تستنزف الخزينة الأمريكية وعلى حساب كم الضرائب المستقطعة من الشعب الأمريكي الأمر الذي وصل اقتصادها إلى حافة الخطر. •• هذا التفكير المختلف لدى أوباما عن الرؤساء الأمريكان السابقين بدا منسجما مع طبيعته كقيادة تحلم بأن تكون تاريخية وغير عادية أو مسبوقة.. كما جاء نتيجة للأوضاع الاقتصادية الأمريكية شديدة التعقيد وهي سياسات منطقية (أمريكيا) ولكنها وعلى المدى البعيد ستكلف الولاياتالمتحدة كثيرا.. لأنه لا روسيا ولا الصين.. ستتنازلان بسهولة عن طموحاتهما في تحقيق مكاسب ملموسة في المنطقة.. وبالتالي فإنهما لن يفرطا في إيران كأداة تغيير ملائمة لتحقيق هذه المصالح إما بالتفاهم المشروط مع أمريكا على حساب مصالح واضحة ومحددة.. وإما بالاستمرار في دعم السياسات الإيرانية المعروفة في التدخل المباشر في الشؤون الداخلية لدول المنطقة وجعلها في حالة اهتزاز مستمر.. •• ولا أعتقد أن الدوائر الأمريكية المختصة لا تدرك هذه الحقيقة.. ولا تستشعر مدى المخاطرة التي قد يدفع ثمنها الجميع لو أنها بالغت في الاعتماد على الشريك الروسي وفي الثقة بالوسيط الإيراني للحفاظ على مصالحها وتأمينها في المستقبل ضمن سياسة الفوز بالمغانم دون دفع الأثمان الباهظة إزاءها. •• وسواء كان الهدف هو الحفاظ على المصالح الأمريكية.. أو كانت الغاية هي الاحتفاظ بمكانة أمريكا في الصدارة.. أو كان الهدف الأكبر هو تأمين سلامة إسرائيل والتمكين لها في النهاية لكي تصبح اللاعب الرئيسي والوحيد في المنطقة بعد تصفية آخر الحسابات مع الحلفاء المرحليين المؤقتين الروس والإيرانيين.. فإن هذه الأهداف لا تبدو ممكنة التحقيق في ظل سياسات تتعامل مع أطراف زئبقية خطيرة.. ودون ضمانات حقيقية ملموسة.. وواضحة.. ونهائية. •• شيء أخير في هذا الجانب كرر أوباما الحديث فيه هو « أمن وسلامة إسرائيل » عندما قال مجددا: «أمريكا لن تساوم على أمن إسرائيل أو دعمنا لوجودها كدولة يهودية»، وهو كلام مكرور جاء هذه المرة في سياق عابر ومطلوب لطمأنة الإسرائيليين إلى سلامة التوجهات الأمريكية الجديدة نحو التقارب مع إيران. الضرب على وتر التناقضات العربية •• نحن إذن أمام بانوراما شديدة التعقيد والإرباك.. عاد أوباما ليربط أسبابها بتطورات الوضع في سوريا.. بينما هي في الأصل هدف وغاية «الفوضى الخلاقة» التي تحدثت عنها وزيرة الخارجية الأسبق «كوندليزا رايس». •• فهو وإن برر تراجعه عن الضربة المعلنة للنظام السوري بقوله: «إن الأزمة في سوريا وزعزعة استقرار المنطقة تطرح تحديات أوسع للمجتمع الدولي.. وهي نزاعات تطرح السؤال التالي: كيف نرد على النزاعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. والنزاعات بين دول وداخلهم أيضا.. وما هو دور القوة العسكرية لحل النزاعات التي تهدد استقرار المنطقة؟، وما هو دور الأممالمتحدة والقانون الدولي في الرد على المناشدة من أجل تحقيق العدالة»؟.. •• وهو وإن برر اختيار المسار السلمي للتعامل مع الوضع في سوريا كمقدمة لنمط جديد من السياسات الأمريكية المختلفة.. إلا أنه لا يستطيع أن يراهن على هؤلاء الشركاء الجدد.. بعد أن نجحوا على ما يبدو في إثارة المخاوف لدى الأمريكان من انتقال السلطة من يد الأسد إلى يد الجماعات المتطرفة في سوريا وهي الجماعات التي استقدمها نظام الأسد.. تحقيقا لمشورة أصدقائه الروس حتى يعطلوا وصول المعارضة السورية المعتدلة إلى الحكم وتتحقق بذلك مصالحهم فيها بالإبقاء على الأسد ونظامه.. •• يؤكد هذا الاعتقاد قول الرئيس أوباما: «إن الولاياتالمتحدة وآخرين عملوا لدعم المعارضة المعتدلة ولكن المجموعات المتطرفة استطاعت أن تنتشر لاستغلال الأزمة».. وكان تسرب هؤلاء إلى الداخل السوري لم يكن معروفا لدى إدارة أوباما.. وكأنه لم يكن نتيجة لتأخر دول أوروبا الغربية وأمريكا في دعم الشعب السوري وفي نضاله أمام نظام ظالم.. رغم تعارض ممارساته مع المبادئ التي يعلنها الغرب ويتباهى بأنه يعمل على رعايتها وتبنيها في كل مكان من هذا العالم.. •• وإذا كان هناك ما أثار ملاحظة المراقبين في خطاب الرئيس أوباما في هذا السياق أكثر من غيره فهو قوله: «إن المعضلة يقصد المعضلة السورية ليست سهلة.. ولذلك فقد كنت أفضل دائما حلا دبلوماسيا لهذه القضية»، وهذا صحيح في إطار منهجية أوباما في التفكير وفي التعامل السابق مع الوضع في ليبيا وقبل ذلك في العراق وأفغانستان.. لكن إشارات قوية وواضحة صدرت من واشنطن في وقت مبكر أعطت معلومات مختلفة عن نية أمريكا للتدخل المباشر في الوضع السوري وحسمه عسكريا بعد أن وقفت على حقيقة تطورات الوضع هناك وتعقيداته وهي إشارات انتهت إلى إطلاق أوباما تصريحات واضحة ومحددة بضرورة استخدام القوة ضد النظام»، مستفيدة من صلاحياته الدستورية في هذا الجانب.. لكن الأحداث والتطورات أثبتت بعد ذلك أن هذا التهديد قد تم احتواؤه من قبل شركاء النظام السوري.. الروس والإيرانيين.. فاتخذ الجميع منحى آخر.. ودخلت المنطقة بسبب ذلك في حسابات مختلفة تشير كل دلالاتها إلى أن الوضع بات مقلقا بصورة أكبر من أي وقت مضى.. لأنه سيفرض شكلا جديدا من التحالفات غير المأمونة على منطقتنا.. من شأنها أن تؤدي إلى تزايد حالة عدم الاستقرار وليس إلى الاستقرار المنشود. •• لذلك أقول: إن المرحلة القادمة تتطلب حوارا مفتوحا ومباشرا حول هذا المستقبل الذي أخذ يتشكل في غياب دوله وشعوبه.. وإن هذا الحوار الصريح بجانبيه الداخلي ومع الخارج لابد من أن يجلو الغموض الذي بدأ يتكشف عن منطقة لا تحتمل المزيد من الشحن والتوتر والخوف على المستقبل أكثر مما هو حاصل حتى الآن.. لاسيما بعد أن سمعنا من «أوباما» كلاما يشبه إلى حد كبير تصريحات «بوتن» ووزير خارجيته «لافروف» وكنا سمعناها ونسمعها من بشار الأسد عبر ظهوره الإعلامي المكثف في الآونة الأخيرة أيضا. •• لقد قال الرئيس أوباما في خطابه الأممي: «إن من يواصل منا دعمه للمعارضة المعتدلة يجب أن يقنعهم بأن الشعب السوري لا يمكنه أن يتحمل انهيار المؤسسات الحكومية وأن التوصل إلى حل سياسي غير ممكن من دون معالجة المخاوف الشرعية للعلويين وغيرهم من أقليات».. وهذا كلام جديد.. يكرره الروس صباح مساء.. •• لكن الأشد خطورة من كل هذا هو قوله أيضا: «أرحب بنفوذ كل الدول التي يمكن أن تساعد في تحقيق حل سياسي للحرب الأهلية السورية». •• هذا الترحيب بكل تأكيد يؤخذ على محملين: الأول: تشجيع أمريكا لروسيا وحتى إيران نحو تبني الحل السياسي بصورة عملية وملموسة ليس فقط بالنسبة لموضوع الكيماوي.. وإنما على مستوى ضمان نجاح المؤتمر الدولي المزمع عقده في جنيف لبدء حوار جاد بين الفرقاء يؤدي إلى انتقال السلطة في ظل منظور واضح ومحدد بين الأسد والقوى المعتدلة وغير المتطرفة من الفصائل المتشددة الطارئة.. أما المحمل الثاني: فإنه يتمثل في قبول الولاياتالمتحدة لسياسة تدخل إيران في الشؤون الداخلية للمنطقة ومباركتها للدعم الروسي المفتوح لكل من الأسد وإيران وحزب الله.. في إطار سياسة العصا والجزرة.. وذلك من شأنه أن يزيد الوضع تأجيجا ويؤدي إلى استمرار حالة اللا استقرار في المنطقة بل وتفاقمها. ضمانات غير مفهومة لدول المنطقة •• صحيح أن الولاياتالمتحدة قدمت من خلال هذا الخطاب تطمينات جيدة لشركائها وأصدقائها في المنطقة ومنها قول الرئيس أوباما: «إن الولاياتالمتحدة مستعدة لاستخدام كل قواها بما فيها القوة العسكرية لضمان مصالحها الأساسية في المنطقة.. وإنها سترد على أي تحرك عدواني ضد حلفائها وشركائها مثلما فعلت في حرب الخليج عام 1991م وإن أمريكا ستبني قدرات شركائها وتحترم سيادتهم للعمل على معالجة أسباب الإرهاب» ، لكن الأكثر صحة هو أنه ربط بين هذا الالتزام وبين تعرض مصالح أمريكا فقط في المنطقة للخطر عندما قال: «ولكن عندما نضطر للدفاع عن الولاياتالمتحدة من هجوم إرهابي سنقوم بعمل مباشر».. مع أن مصالح أمريكا تظل مرتبطة ارتباطا وثيقا بمصالح دول المنطقة نفسها.. وأن صيانة المصلحتين معا مرهون بمدى تحقق الاستقرار والأمان في أرجائها.. وذلك غير ممكن في ظل أي توجه نحو قلب التوازنات الراهنة. •• ذلك جانب.. •• أما الجانب الآخر المهم في القناعات الأمريكية الجديدة فإنه يتجسد من خلال قول أوباما: «إن دعم الديمقراطية ليس من المصالح الأساسية التي ستعمل على حمايتها فقد أظهر لنا العراق بأنه لا يمكن فرض الديمقراطية بالقوة»، وهو ولاشك فهم متقدم من شأنه أن يغير طريقة تعامل أمريكا مع دول المنطقة التي حرصت في أكثر من مناسبة على التأكيد على خطأ السياسات التي تفرض ثقافة أخرى على دول وشعوب المنطقة أدت وتؤدي إلى خلق حالة عدم استقرار غير مبررة.. وأثمرت عن عداوات كثيرة لأمريكا نفسها في منطقة عانت وتعاني شعوبها من التدخلات الأجنبية كثيرا.. وقدمت الأحداث والتطورات الأخيرة أكبر إثبات للعالم بأن فرض أي تغيير بالقوة لا يخدم أي طرف ولا يؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى غير المحسوبة. •• صحيح أن الشعوب ترغب في التغيير لكنها تدرك أن التغيير لذات التغيير.. لا يأتي بالأفضل في كل الأحوال وإلا فإن الثمن يصبح عاليا ولا يعود إلى النتائج التي تتطلع إلى تحقيقها. •• وما حدث في بعض الدول العربية وكذلك في بعض الدول الأفريقية ضرب أحلام شعوبها في مقتل.. وعرض الدول نفسها لمستويات متقدمة من الانهيار يصعب معالجتها في وقت قصير.. •• وليس من مصلحة الولاياتالمتحدةالأمريكية أن يتكدس في أذهان شعوب المنطقة القول بأن ما انتهت إليه الأمور في دول ما يسمى بالربيع العربي هو نتيجة طبيعية لخارطة الطريق التي رسمتها خطة «الفوضى الخلاقة» أمريكية الصنع. •• كما أنه ليس من مصلحة دول وشعوب المنطقة نفسها أن يحدث فيها المزيد من الانهيارات إلا إذا كان المطلوب هو تحقيق خطة «بيريز» نحو شرق أوسط جديد.. تكون فيه إسرائيل هي السيد الوحيد.. وتقوم فيه بقية الوحدات السياسية الجديدة بدور «الكمبارس» ليس إلا.. استقرار المنطقة في مصلحة دول العالم •• ولعل حديث الرئيس «أوباما» عن الطاقة يؤكد ما نقوله بضرورة بذل جميع الأطراف جهودا جادة وصادقة نحو تكريس عوامل استتباب الأمن والاستقرار في منطقتنا فهو يقول: «على الرغم من أن الولاياتالمتحدة بدأت تقلل تدريجيا من اعتمادها على النفط المستورد إلا أن العالم مازال يعتمد على مصادر المنطقة للطاقة وأي اضطراب قوي قد يزعزع اقتصاد العالم بأجمعه». •• وبقدر ما يؤكد هذا الكلام على حقيقة هامة ألا وهي أن استقرار العالم كله مرتبط باستقرار المنطقة.. وأن تثبيت الوضع الأمني هو حاجة دولية ملحة ولا تخص دول المنطقة وشعوبها وحدها.. بقدر ما يفرض هذا على الدول الكبرى وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة اتباع سياسة تقمع وتزيل أسباب الشر وعناصر التوتر بدل تشجيعها ومهادنتها أو التفكير مجرد التفكير في التحالف معها.. لأن هذا السلوك لن ينجح في احتوائها وإنما سيشجعها على التمادي وفرض شروطها في النهاية ضد إقرار مشروع جديد لإعادة رسم خارطة المنطقة على نحو أو آخر. برجماتية جديدة •• وكما قلت في البداية.. فإن حديث أوباما هذا عكس العديد من التوجهات الأمريكية الجديدة.. بعضها «براجماتي».. والبعض الآخر «واقعي».. والبعض الثالث «تقاربي».. والبعض الآخر قد يصفه البعض بأنه «شوفيني».. لكنه على أية حال.. يقدم أمريكا بصورة واضحة ومختلفة.. •• فالرئيس أوباما في حديثه عن مصر.. نفى ضمنا أن تكون بلاده قد دعمت الإخوان المسلمين وساندت محمد مرسي حين قال: «نحن لم نختر عمدا طرفا لدعمه في مصر.. ولذلك فإننا سنبقى على علاقة بناءة مع الحكومة الانتقالية التي تدعم مصالحنا الأساسية مثل اتفاق كامب ديفيد ومكافحة الإرهاب».. وتابع قائلا: «إن الولاياتالمتحدة ستعمل أحيانا مع حكومات لا تتماشى مع التوقعات الدولية العالية ولكن ستعمل معنا من أجل مصالحنا الأساسية وإن كنا لن نكف عن الحديث عن المبادئ التي تتماشى مع قيمنا»، وهو كلام واضح ومحدد.. ولا يحتاج إلى تعليق بالرغم من أنه موقف مغاير لما كانت الإدارة الأمريكية قد عبرت عنه في بداية تغيير الأوضاع في مصر.. وأستطيع أن أقول إن المملكة كان لها دور كبير وقوي ومؤثر في بلورة هذا الموقف من خلال اتصالات خادم الحرمين الشريفين شخصيا بالرئيس الأمريكي ومتابعة وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل وزياراته لأمريكا وفرنسا وبريطانيا لشرح حقيقة الموقف في مصر لقادتها ومسؤوليها.. بالإضافة إلى الجهود الكبيرة التي قامت بها الدولة المصرية الجديدة في الاتصال بهذه الدول وكذلك فتحها الأبواب على مصاريعها لوفود عالية المستوى لزيارتها والوقوف على حقيقة الوضع فيها بعد الاتصال بكل الأطراف وتدارسها للموقف على الطبيعة. •• وسواء قصد «أوباما» مصر بهذا الكلام أو قصد دولا أخرى في المنطقة وغيرها.. فإن المهم هو أن أمريكا نفسها تكون بذلك قد وصلت إلى قناعة جديدة مؤداها.. أن الدول والشعوب هي التي تحدد خياراتها.. ولا أحد يستطيع أن يملي عليها ما لا تريد.. وأن هناك مصالح مشتركة وعميقة هي التي يجب أن تفرض نفسها على الجميع وأن هناك فرصة أكبر للتفاهم بين أمريكا ودول العالم الأخرى وفي مقدمتهم الدول الصديقة أيضا. •• وأخيرا.. فإن «الرئيس أوباما» لخص هذه السياسات وتلك التوجهات في قوله: «إن على أمريكا أن تبقي سياسة التواصل من أجل أمنها وأنا أؤمن أن العالم سيكون أفضل بهذه السياسة».. وذلك ينطوي على رد مباشر على من يعتبرون التراجع الأمريكي في سوريا استجابة لعرض روسي بدا وكأنه مغرٍ ومشجع.. أو أنه جاء بناء على طبخة أمريكية روسية إيرانية يجري إنضاجها على نار هادئة.. أو أولئك الذين يعتقدون أن أمريكا تمارس بذلك ضغطا متزايدا على أصدقائها لتمرير سياسات أو مشروعات أو مطالب من نوع أو آخر. لكنه وفي كل الأحوال يستدعي من دول وشعوب المنطقة دراسة مستفيضة تحدد بعدها ما يتوجب عليها أن تفعله في المرحلة القادمة، لكنها تخطئ كثيرا إذا هي نظرت إلى هذا الخطاب على أنه صياغة جديدة لخطاب إعلامي مألوف في اجتماعات الجمعية العمومية السنوية التقليدية. •• ولا أدري إن كان «أوباما» قد قال في خطابه هذا كل ما تفكر فيه أمريكا أو تعتزم القيام به في المستقبل القريب.. بهذه الشفافية وذلك الوضوح الذي فاجأ به الشعب الأمريكي وسائر شعوب الأرض.. أو أنه عكس بذلك بعض ما يدور بين بلاده وبين دول المنطقة وغيرها في الغرف المغلقة وأراد بذلك أن يدمج الشعوب في تصورات بلاده وفي خططها وبرامجها المستقبلية ولأي هدف وقع هذا أيضا ؟.. •• لكن الوضع بمجمله يؤكد أن الفترة القليلة القادمة سوف تشهد عملية شد وجذب نأمل أن تفيد في تحقيق تفاهمات أفضل بين دولنا وشعوبنا وبين الأمريكان وليس العكس.