تقلد السلطة لا يعني ممارسة الحكم. الحكم يقتضي السيطرة التامة وغير القابلة للجدل لأدوات السلطة ومؤسساتها ورموزها، لفرض إرادة النخبة الحاكمة في حقبة تاريخية بعينها. في العصر الحديث، خاصة في الأنظمة السياسية الحديثة التي لا تستند في شرعيتها على أسس ديمقراطية مستمدة من إرادة شعبية حقيقية، تصعب عملية التحول الديمقراطي فيها، بصورة تخرج عن إرادة النخبة التقليدية الحاكمة. فأي تحول ديمقراطي في مثل تلك المجتمعات يستند على أسس غير تقليدية لن يُكتب له النجاح؛ بسبب هذه الملاحظة النوعية والفنية تجابه موجة «الثورات»، في ما يسمى ببلدان «الربيع العربي»، إخفاقات في التحول الديمقراطي، بالرغم من قناعة النخب التقليدية فيها والجماعات الثورية الشابة بضرورة مثل هذا التحول من أجل ضمان تداول سلمي للسلطة، يقوم على أسس غير تلك التي تحتكرها النخبة التقليدية الحاكمة. من أهم مظاهر «ثورات الربيع العربي»، أنها كانت انتفاضات شعبية عارمة ضد أنظمة تقليدية قائمة فقدت فاعليتها وكفاءتها في ممارسة الحكم وفقدت مرونتها في استجابة مؤسساتها ورموزها لحاجات الشعب وتطلعاته، بالإضافة إلى أنها أضحت فريسة لفساد سياسي ومالي وأخلاقي، وبدت وكأنها تخشبت عند حقبة تاريخية موغلة في تخلفها ورجعيتها. كما أن هذه الانتفاضات الشعبية كانت تفتقر إلى قيادة حزبية متمرسة في العمل السياسي، فشلت نخبة المعارضة التقليدية في احتضان تلك الانتفاضات الشعبية، لأنها فوجئت بها كما فوجئت النخبة الحاكمة. كما أن هذه الهبات أو الانتفاضات الشعبية التي تسمى تجاوزا ثورات كانت تخلو من أي تفكير سياسي للتعامل مع مرحلة ما بعد تقويض النظام الذي ثارت عليه، إلى بناء نظام آخر على أنقاضه. لقد ذهب العصر الذي كان التحول من نظام إلى نظام يتم عن طريق العسكر بالانقلاب على السلطة القائمة باحتلال قصور النخبة الحاكمة والاستيلاء على دار الإذاعة وقراءة البيان الأول. سيناريو اتبعته مجتمعات الكثير من الدول، في الفترة ما بين الأربعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. شيء لا يمكن تصور نجاحه هذه الأيام، إلا في حالات نادرة في ما يسمى حركة الثورات المضادة. الآن أصبحت الأنظمة الحاكمة أكثر تعقيدا وصعوبة، حتى أن بعضها يحتاج إلى تدخل دولي حاسم لاقتلاعها عن السلطة. في الحالة المصرية ثبت أن التخلص من رأس النظام لا يعني تقويض النظام القائم، حتى بعد غياب الرئيس مبارك عن سدة الحكم فإن نظامه ونظام سلفيه عبدالناصر والسادات ما زال قائما. ليس هذا فحسب بل إن نظام مبارك ظل يحكم، حتى بعد أن تقلدت السلطة جماعة الإخوان المسلمين باعتلائها موجة ثورة 25 يناير 2013. ما لا يعرفه الكثيرون أن الجماعة كانت جزءا من نظام الرئيس مبارك السياسي، بوصفها كانت أهم عناصر المعارضة لذلك النظام وأعقدها تنظيما وأشدها حماسا وأقربها احتمالا لتقلد السلطة. في الثلاثة الأيام الأولى من اندلاع الثورة كانت الجماعة مترددة أي طريق تسلك. طريق الثورة أم طريق التعامل مع نظام مبارك بل إنها شاركت في اجتماعات الحوار مع اللواء عمر سليمان مع بعض قيادات شباب الثورة من أجل إيجاد مخرج للأزمة، حتى عقدت الجماعة العزم يوم 28 يناير أن تراهن على جواد الثورة، وكان انحيازها هذا حاسما. قد تكون فرصة ذهبية أضاعتها الجماعة بالاستجابة لعروض اللواء سليمان للتعاون مع نظام مبارك لتجاوز الأزمة. وكان سلوك الجماعة حينها يُعد طمعاً سياسياً، ولسان حالهم - حينها - كان يقول: لماذا نرضى بقطعة من الكعكة بينما في مقدورنا التهام الكعكة كاملة. وفات الجماعة - حينها أيضا - أن معدتهم السياسية لا تتسع لهضم الكعكة كاملة. الجماعة التي كانت طوال تاريخها تنفر من ممارسة السلطة وتبدي أدبياتهم وتصريحات قياداتها زهدا غير منطقي في تقلد سدة الحكم، خُيل لزعامتها وكوادرها بعد نجاح الثورة أن بوابات الحكم ونوافذ السلطة في مصر أضحت مشرعة مرحبة بقدوم عهدهم. لكن فات الإخوان وكذلك غيرهم ممن ركب موجة الثورة ملاحظة أهم خصائص الأنظمة السياسية في المنطقة وتكمن في استحالة تغيير الأنظمة خارج نطاق النخبة التقليدية الحاكمة، بمؤسساتها ورموزها وقيمها. فغياب رأس النظام لا يعني بالضرورة سقوط النظام. فالأنظمة السياسية الحديثة في بلدان المنطقة استثمرت بسخاء في المتغير الأمني، بوصفه أكبر ضمان لبقاء النظام واستمراره. هذه الأنظمة، أيضاً، أنفقت بسخاء على ما يُطلق عليه بالدولة العميقة، من أجل بناء نظام سياسي متين مرتبط ببيئة سياسية صلبة لا يمكن لها أن تكون مطواعة لأي نخبة حاكمة تأتي من خارج النخبة الحاكمة التقليدية، مهما كانت شرعية النخبة الجديدة سواء كانت ثورية أو دستورية. حدث وأن تقلد الإخوان سدة السلطة ولكنهم لم يمارسوا الحكم، بصورة فعالة وكفؤ. نجحوا في إيجاد مؤسسات سياسية، فكتبوا دستوراً وأنشأوا برلماناً ونصبوا رئيساً، إلا أن مؤسسات وكوادر الدولة العميقة التي عصت على الثورة والثوار حتى مجيء الإخوان للسلطة تسببت في حرمانهم من حكم البلاد. قوى الأمن (جيش وشرطة) لم تكن معهم، القضاء والنيابة ناصبتهم العداء، قوى المعارضة التقليدية رفضت التعاون معهم، الجهاز البيروقراطي للدولة استعصى عليهم، طبقة رجال الأعمال توجست خيفة منهم، الإعلام من البداية شن عليهم هجوما كاسحا لا قبل لهم به. باختصار، وجد الإخوان مؤسسات وأجهزة الدولة العميقة تحول بينهم وبين حكمهم للبلاد. حتى تمكنت أجهزة ومؤسسات ونخب الدولة العميقة من إخراجهم من السلطة بنفس الطريقة التي أتوا بها. ثورة مضادة يوم 30 يونيه 2013، ليخرج من السلطة أول رئيس منتخب لمصر، بعد عام ويومين من دخوله قصر الاتحادية في الثالث من يوليو 2013. هذه الثورة لم يقم بها الجيش وحده بل كل مؤسسات وأجهزة ونخب الدولة العميقة، التي استعصت على حكم الإخوان. تقلد السلطة، بغض النظر عن مشروعية الوصول إليها، لا يعني التمكن من مقاليد الحكم. هذا هو سر فشل الإخوان في حكم مصر. حكم مصر عملية صعبة ومعقدة، وإن بدا أن الوصول لكرسي الحكم (السلطة) أكثر سهولة وأقل تعقيدا.