الديموقراطية تلفظ أنفاسها الأخيرة. تلك هي الدلالة الأبرز والأهم في المشهد السياسي المصري الراهن والتي تؤكدها سياسة حافة الهاوية التي تتبعها المؤسسة العسكرية وجماعة «الإخوان»، على حد سواء. فبعد أن أعلن وزير الداخلية المصري محمد إبراهيم أنه سيفض اعتصامي «الإخوان» في ميداني «رابعة العدوية» و «النهضة» بالوسائل القانونية بموجب تفويض شعبي حصل عليه وزير الدفاع الفريق الأول عبدالفتاح السيسي في تظاهرات 26 تموز (يوليو)، جابهت الجماعة ذلك الأمر بإصرارها على موقفها حتى يتحقق مطلب عودة الرئيس المعزول محمد مرسي إلى سدة الحكم، بما ينذر بصراع عنيف ممتد تجلت بوادره في المذبحة التي وقعت ضد المعتصمين في محيط «رابعة العدوية» وراح ضحيتها 72 قتيلاً بحسب الرواية الرسمية و126 قتيلاً وفق رواية «الإخوان». مشهد الصراع في مجمله له انعكاسات سلبية عميقة ستعوق بالتأكيد انطلاق العملية الديموقراطية في مصر لخمسة أسباب. أولها لجوء العسكر و «الإخوان» إلى تكتيك سياسي عقيم، وهو اللعب بالحشود في الشوارع، وهو نمط من السلوك السياسي بدأ في عهد «المجلس العسكري»، وتسبب في وقوع مئات القتلى وآلاف الجرحى منذ سقوط مبارك وحتى الآن. فالإشكالية الأساسية في هذا النمط تكمن في كونه مخالفاً لما يمكن أن نطلق عليه التصور البورجوازي للدولة الذي دشنه مفهوم العقد الاجتماعي وترسخت في إطاره مبادئ وأسس النظام الديموقراطي، باعتباره نظاماً يقوم في جوهره على الفردية. ومن ثم فإن الإرادات السياسية للأفراد تتلاقى وتتنافر فيه في شكل عقلاني وفقاً لمصالحهم الاجتماعية والاقتصادية المباشرة، بعكس تصور الفيلسوف الألماني هيغل للدولة والذي يقوم على حشد الإرادات السياسية للأفراد في شكل عاطفي انطلاقاً من أيديولوجيا أحادية وإقصائية يتم من خلالها الهيمنة على الشعور الجمعي للجماهير. فخطورة هذا التصور الهيغلي تكمن في كونه شكل تاريخياً الإطار المعرفي الذي انضوت داخله النظم الفاشية والتسلطية كافة، ومن ثم فإن تكتيك اللعب بالحشود الجماهيرية وما يترتب عليه من تأجيج مشاعرها العدائية تجاه بعضها بعضاً يعني في النهاية تغذية النزعة الفاشية الموجودة في الشارع المصري برافد جديد وخطير. وهو ما ينقلنا إلى السبب الثاني المتمثل في بزوغ فاشية جديدة تخلط بين أهداف ومصالح العسكر والقوى العلمانية والقوى الثورية في مواجهة الفاشية الدينية التي وصلت إلى أوجها في عهد محمد مرسي. فالممارسات الإقصائية والخيارات الدموية لمحمد مرسي وأنصاره يرد عليها الآن بالممارسات والخيارات نفسها من قبل السلطة الانتقالية، ما يعنى أن تلك الموجة الثورية الجديدة التي عبرت عن نفسها في 30 حزيران (يونيو) الماضي تسعى إلى إزاحة «الإخوان» باستدعاء منطقهم، وبالتالي هي لا تطرح نفسها باعتبارها نقيضاً جدلياً وبنيوياً لما كان قائماً في عهد الحكم «الإخواني»، بل هي على أفضل تقدير مجرد نقيض أيديولوجي لذلك العهد. وهو ما يعني أن السلوك السياسي الفاشي والتسلطي لم يكن مرفوضاً في ذاته من القوى التي فجرت تلك الموجة الثورية بقدر ما كان مرفوضاً في إطار أيديولوجيا سياسية بعينها سعت جماعة «الإخوان» لترويجها في الشارع المصري. وهو ما أفرز السبب الثالث، وهو تأطير الثقافة الديموقراطية ومفاهيمها في إطار أيديولوجي دوغمائي يرتطم بطابعها المعرفي. فالأيديولوجيا تكاد تكون نقيضاً للمعرفة. ففي حين تسعى الأولى إلى تنظيم وضبط الواقع وفقاً لفروضها المبدئية، فإن الثانية تستلهم قوانينها من حركة الواقع ذاتها. لذلك، فإن محاولة تأطير أو تفسير عملية التحول الديموقراطي في مصر وما تمخض عنها من أزمات انطلاقاً من قناعات أيديولوجية مسبقة لدى الإسلاميين أو العلمانيين أو القوى الثورية، أنتجت هذا المشهد المأسوي. فتلك المحاولة البائسة أوصدت الباب نهائياً أمام ترسيخ ثقافة ديموقراطية حقيقية تقوم على حماية حق الاختلاف وحرية التعبير السلمي عن الرأي، سواء بالنسبة إلى رجل الشارع العادي أو فصائل النخبة ذاتها انطلاقاً من مقولة جون ستيوارت مل إلى أن قمع أي رأي هو قمع لحق محتمل. أما السبب الرابع فهو المنطق الميثولوجي الذي يحكم المواقف السياسية كافة في مصر. فكل طرف من الأطراف المتصارعة بنى موقفه من تلك الأزمة انطلاقاً من أسطورته الذاتية التي تتمحور حول مقدساته الخاصة كالدفاع عن الأمن عند العسكر والقضاء على الفاشية الدينية عند القوى الثورية والعلمانية وأستاذية العالم عند الإسلاميين. وتكمن الإشكالية الكبرى في هذا المنطق الميثولوجي في أنه أحال الصراع السياسي إلى حرب صليبية يسعى كل طرف فيها إلى القضاء على خصمه نهائياً، بما يمنحه طبيعة دموية واستمرارية تاريخية تجعلانه عصياً على الحل في إطار المواءمات السياسية الآنية والنسبية. أما السبب الخامس والأخير فيكمن في استدعاء القوى الثورية والعلمانية للصدام الذي حدث ما بين الجيش و «الإخوان» في أعقاب أزمة آذار (مارس) عام 1954 وانتهى بحل الجماعة على رغم تناقض الدوافع التي حكمت موقف العسكر في تلك الأزمة مقارنة بانتفاضة 30 يونيو 2013. فقد قوض العسكر النظام الديموقراطي التعددي في آذار 1954 بعكس موقفهم في حزيران 2013، إذ إن تدخلهم جاء بالأساس لترسيخ قيم ومفاهيم هذا النظام. لذلك، فإن رغبة تلك القوى في التشفي في الإسلاميين دفعتهم من دون أن يدركوا إلى نزع الغطاء السياسي والأخلاقي عما قام به الجيش في 30 حزيران بل وتحريضه كذلك على اتخاذ المزيد من الخطوات القمعية والتصعيدية في مواجهة «الإخوان»، بما ينذر بكارثة محققة على العملية الديموقراطية في مصر. * كاتب مصري