أكد ل«عكاظ» عضو هيئة كبار العلماء الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك أن المتبرع بالدم محسن بتبرعه مؤثر غيره بمعروفه، وإن ترتب على هذا شيء من الضرر على المتبرع، فهذا من الإيثار بالنفس، مضيفا: باستقراء أحكام الشريعة الإسلامية ومن خلال النظر في أدلتها الكلية والجزئية، نجد أنها دائرة حول رعاية مصالح الناس، أي أنها جاءت لبيان ما به صلاح أحوال البشرية في دنياها وأخراها، كما قال العز بن عبدالسلام -يرحمه الله- «والشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه، أو شرا يزجرك عنه، أو جمعا بين الحث والزجر»، وقد ذكر الإمام الغزالي -يرحمه الله- أن الشريعة ترعى مصالح العباد عبر المحافظة على خمسة مقاصد، بها قوام الحياة الإنسانية، وقد ذكروا أنها مراعاة في كل ملة من الملل. وبين المبارك أن هذه المقاصد الضرورية الآنفة الذكر حفظ الدين ثم حفظ النفس ثم حفظ العقل ثم حفظ النسل وأدناها حفظ المال، لافتا إلى أن حفظ النفس يكون من جانب الوجود بتوفير ما يقيمها من المأكل والمشرب والمسكن، ومن جانب العدم بحمايتها من الاختلال الواقع أو المتوقع عليها. وأشار إلى أن الله شرع من أجل ذلك التداوي من الأمراض إذا وقعت بالإنسان، وشرع التوقي منها قبل أن تقع، ونهى عن التعرض لها، فقد بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين خرج إلى الشام أن الوباء قد وقع بها، فامتنع عن دخولها، فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه). قال: فحمد الله عمر ثم انصرف. وذكر عضو هيئة كبار العلماء أن التداوي بحقن المريض بالدم من باب حفظ النفس بدفع الاختلال الحاصل على بدنه، حال نقص الدم في العروق، لا إشكال في جوازه إن شاء الله تعالى، أما التبرع بالدم، فهو من باب التعاون على البر، فالمتبرع مأجور إن حسنت نيته إن شاء الله تعالى، فقد قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) وهو من باب تفريج الكرب، في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه الشيخان: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي ملأ خفه ماء، فسقى الكلب: (في كل ذات كبد رطبة أجرا)، غير أن المرء قد يستشكل أن الدم نجس مقطوع بتحريمه، فقد حرمه الله تعالى بنص كتابه فقال سبحانه: (إنما حرم عليكم الميتة والدم) وقال أيضا: (حرمت عليكم الميتة والدم). ولفت المبارك إلى أن الجواب يكمن في أن التحريم مقطوع به لغير المضطر، أما المضطر فلا حرج عليه في ذلك بإجماع المسلمين، فإن الله تعالى بعد أن ذكر تحريم الدم قال: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) وقال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) وقال: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)، موضحا أن المتبرع بالدم محسن بتبرعه مؤثر غيره بمعروفه، وإن ترتب على هذا شيء من الضرر على المتبرع، فهذا من الإيثار بالنفس، قال تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) قال الإمام النووي رحمه الله «أجمع العلماء على فضيلة الإيثار بالطعام ونحوه من أمور الدنيا وحظوظ النفس»، بل إن الامتناع عن التبرع حال تعينه مظنة الإثم، لأنه بمنزلة ترك إنقاذ الغريق، فإن كان الامتناع من المريض كان بمنزلة إلقاء النفس في التهلكة، وتعريضها للموت، وهو محرم، قال البغوي -يرحمه الله- «وإذا علم الشفاء في المداواة وجبت»، مضيفا: اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب أكل الميتة للمضطر إذا خشي على نفسه الهلاك، فما أعظم أجر من يكون سببا في إنقاذ حياة الآخرين، قال الله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).