الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد: فإن من فضل الله عز وجل على البشرية ارسال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام الذي اشتمل على الدعوة إلى الخير والحث على الفضيلة وركز على المعاني العالية فجعل الخلق يلتفتون إليها ويلاحظونها في جميع أفعالهم وأقوالهم، وأمر بفعل وسائل هذه المقاصد، ومن مقاصد التشريع الإسلامي جلب المصالح للخلق وإبعاد المفاسد عنهم قال تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فكان دين الإسلام نعمة عظيمة من نعم الخالق على البشرية قال تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} ومن المصالح التي جاءت الشريعة بضمانها وبذل الأسباب لتحصيلها مع الأمر بوسائلها مصلحة الأمن الذي تسكن به النفوس وتطمئن من خلاله القلوب، وهذا المقصد العظيم - مقصد الأمن - ركزت عليه نصوص شرعية كثيرة يطول تعدادها ولكن أحصر حديثي عن الأمن في الإسلام بذكر الوسائل التي جاء بها الشرع للمحافظة على نعمة الأمن. فمن هذه الوسائل التي تؤدي إلى حفظ الأمن ما يأتي: أولاً: التذكير بعظم نعم الله على العباد بتحقيق الأمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) ولا يشك أحد بعظم نعمة الأمن فلا يهنأ فاقد الأمن بنوم ولا يتلذذ بطعام، وقال تعالى {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}. ثانياً: الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق، ولا شك أن المحافظة على الأمن يؤدي إلى الاجتماع، قال تعالى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}. وقال تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} وقال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. ثالثاً: الإلزام بطاعة ولاة الأمر وجعل ذلك ديناً وطاعة يتقرب به المؤمنون إلى ربهم قال تعالى {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ويقول صلى الله عليه وسلم: (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني) ويقول: (اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي) ويقول: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره) بل قال: (اسمع وأطع لأميرك وإن أخذ مالك وضرب ظهرك). رابعاً: ايقاظ الوازع الديني في قلوب المؤمنين من خلال التذكير بمراقبة الله للعباد وإطلاعه على جميع أفعالهم ومن ثم يحجم المسلم عن كل فعل يؤثر في الأمن خوفاً من الله الذي يطلع عليه والذي سيجازيه على أفعاله ولو لم يوجد بقربه أحد من الشرطة قال تعالى {يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم٭ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ٭ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}. خامساً: التحريم القاطع للاعتداء على الآخرين، قال تعالى {ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين} وقال تعالى {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) بل إن الاعتداء على الآخرين ظلم شنيع فيكون داخلاً في قوله عز وجل في الحديث القدسي: (ياعبادي إني قد حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فللا تظالموا) وقال سبحانه (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} وفي الحديث الصحيح: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) وتلا قوله سبحانه: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} ولذا قال سبحانه: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} ويمتد هذا التحريم ليشمل منع الاعتداء على المعاهدين والمستأمنين من أبناء الديانات الأخرى حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة). سادساً: تعظيم حرمة الدماء كما قال تعالى {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنة وأعد له عذاباً أليماً} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) و(زوال الدنيا أحب إلى الله من سفك دم المسلم). سابعاً: التشديد على حرمة الأموال المملوكة للآخرين وتحريم الاعتداء عليها بإتلاف أو أخذ أو غير ذلك، وفي هذه الوسيلة والتي قبلها يقول تعالى {ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً٭ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً}. ثامناً: ترغيب الشريعة لأهل الإسلام أن يتوجهوا لله عز وجل داعين بأن يحقق الأمن، فإن الله عز وجل قد تكرم بإجابة الداعين كما قال سبحانه {وقال ربكم ادعوني استجب لكم} وقال {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقد كان أنبياء الله عليهم السلام يتوجهون لله بالدعاء أن يحقق الأمن في البلاد قال تعالى {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا}. تاسعاً: تكفل الله لمن جعل عبادته خالصة لله ولم يصرف شيئاً من العبادة لغير الله بتحقيق الأمن كما قال سبحانه {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} وقال سبحانه {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}. عاشراً: جاءت الشريعة بتحقيق العلم الشرعي الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتقطع بذلك الطريق على أصحاب الفكر الآخر الذي يستحل الدماء والأموال فإن العاطفة غير المعتمدة على علم شرعي قد تؤدي إلى الاستجابة لهم ومن هنا فلابد من زيادة المساحات المتاحة لتعلم العلوم الشرعية ومن وسائل ذلك الرجوع للعلماء الموثوقين قال تعالى {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً} ومن وسائل ذلك عدم إثارة ردود الفعل بتبنى بعض الوسائل الإعلامية لفكر مضاد لفكر أهل هذه البلاد. الحادي عشر: جاءت الشريعة بوجوب تسليم المطلوبين أمنياً أنفسهم لولاة الأمر ونوابهم وبذلك يحصل لهم امتثال أوامر الله ورسوله وولاة الأمر وبذلك يأمنون ويذهب عنهم قلق المطاردة بل يتحقق بذلك مراد آبائهم وأمهاتهم الذين أمرنا الشارع بتحقيق رغباتهم وبذلك يحصل لهم طمأنينة على أبنائهم {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً} وكون المرء المسلم يسلم نفسه فتكون عقوبته في الدنيا أولى من عقوبة الآخرة الشديدة الدائمة. الثاني عشر: جاءت الشريعة بتحريم إيواء المخالفين لولاة الأمر الذين يريدون تفريق الكلمة وشق عصا الطاعة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إيوائهم فقد قال: (من جاءكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يفرق كلمتكم وأن يشق عصاكم فاقتلوه كائناً من كان). الثالث عشر: جاءت الشريعة بوجوب التبليغ عن أولئك المخالفين تحقيقاً لقوله سبحانه {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} وكون المرء يبلغ عن قريبه أفضل من سماعه من الإذاعات نبأ قيامه بقتل نفسه منتهكاً بذلك حرمة الدماء والأموال مروعاً الآمنين وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهر هذا في بلدكم هذا). الرابع عشر: جاءت الشريعة الإسلامية بتقرير عقوبات على الذين يخلون بالأمن قال تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} وليعلم بأن هذه العقوبات لها شروط وقيود لابد من ملاحظتها عند تطبيق هذه العقوبات، كما أن هذه العقوبات مقررة من أجل تحقيق مصلحة المجتمع ومراعاة مصلحة العدد الكثير مقدم، كما أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ثم إن هذه العقوبة مصلحة للمجني عليه وذويه ليحصل بذلك شفاء غيظهم واستقرار نفسياتهم، وفي هذه العقوبة ايضا مصلحة للجاني ذاته وهذه المصلحة تتمثل في طهارة الجاني من ذنبه، وسلامته من العقوبة الأخروية كما أن هذه العقوبة تجعل الجاني لا يعود لذنبه وجنايته وتردع أيضا من تسول له نفسه الأمارة بالسوء لفعل جريمة مماثلة لجريمة ذلك الجاني. الخامس عشر: أن يكون إجراء العقوبة على وفق ما ورد في الشريعة بدون زيادة ولا نقصان وبدون التفريق بين الناس بدون أسباب شرعية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وروى أبوداود باسناده (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله). السادس عشر: عممت الشريعة المسؤولية الأمنية على الجميع (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) فالصغير والكبير يجب عليهم الحفاظ على هذه النعمة لكن قد تعظم المسؤولية ويكبر الواجب على بعض الأفراد إما لاناطة عمل به أو لكونه اطلع على شيء لم يطلع عليه غيره. وهذا المذكور من الوسائل جزء مما ورد في الشريعة، وهناك وسائل أخرى يضيق هذا المقام عن استيعابها. أسأل الله عز وجل أن يحفظ لنا أمننا، وأن يكفينا شر من أراد بأمننا سوءاً، كما أسأله سبحانه أن يوفق جميع المسلمين للقيام بالواجب عليهم في الحفاظ على الأمن، وأسأله سبحانه أن يجعل المطلوبين أمنياً يسلمون أنفسهم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ٭ عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء