زمان كان الناس يشعرون ببعضهم بعضا، يكفي الواحد أن ينظر في وجه الآخر أو يسمع صوته ليعرف أحواله، وكانوا يتبادلون الزيارات ولا يبخلون بسؤال. اليوم الدنيا تغيرت وأصبحت (دنيا) بقسوة المشاعر وتشوه الأحاسيس الإنسانية حتى في صلة الأرحام، لأننا استسلمنا لماكينة الحياة حتى (فرمت) أشياء جميلة، وطحنت تروسها أعصاب البشر، حتى أصبح الإنسان مشغولا بنفسه ومنشغلا عن إصلاحها، يجافيه النوم قلقا، ويصحو غير مرتاح تطارده مشاغل اليوم. إنها حالة الرضا المستعصية، إلا من رحم ربي. كلنا نتمنى الخير والمزيد منه، نجاحا واستقرارا وعافية، وظيفة أو ترقية أو مالا، والبعض يستشعر حاجات الناس ويسعى جاهدا منشرحا بقضائها، والبعض لا يشعر بفداحة ظلمه لغيره ويتمادى، وينسى أن الله مقتدر، وأن المرء كما يدين يدان. يوميا نرى ونقابل وجوها نعرفها، ووجوها أكثر لا نعرفها.. تشعر أن كل وجه له حكاية تشغله، ويحمل في نفسه تفاصيل متشابكة بحلوها ومرها. تأمل أناسا كانوا ملء السمع والأبصار مالا وجاها ووجاهة، ثم تواروا عن السمع والأبصار، بعد أن أقعدهم المرض أو تغير الحال وسبحان من يغير ولا يتغير ترى فيم يفكر هؤلاء بعد أن انفض عنهم القوم وقد هرولوا إليهم من قبل فرادى وزرافات. تأمل أناسا لديهم ما يكفيهم من الخير صحة ومالا، ترى ما الذي يقلقهم ويذهب عنهم النوم.. وأناسا بسطاء أحلامهم صغيرة وتسعدهم أشياء بسيطة وقد تضن عليهم الدنيا بها. تأمل ظروف شباب وفتيات يتطلعون إلى الاستقرار والزواج، ولا يرون إلا واقعا قاسيا يطالبهم بغير المستطاع، فيغالبون الواقع أو يستسلمون له. وتأمل أحوال اليتامى وما يفتقدون وذوي الاحتياجات الخاصة وما ينتظرون.. وتأمل حياة عامل نظافة بسيط لقمة عيشه في رفع القمامة ووراءه ألف حكاية.. ألا تستحق هذه الوجوه أن نشعر بها، ولو حدث ذلك لصلحت نفوسنا وشؤوننا ومثالبنا، وتغير حال الدنيا في حياتنا بعين الرضا، وتحققت أشياء جميلة من التراحم والمودة، وصدرت قوانين وانتشرت خدمات تراعي إنسانية الإنسان.. فهل ننظر في مرآة النفس ونتغير ونترفع عن زبد يذهب جفاء. قال تعالى «المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا».