بعض الناس يمنحهم الله من سره مالا يمنحه لغيرهم، فنراهم يتصفون بصفات ومزايا خاصة بهم، لو قلدهم أو حاول محاكاتهم غيرهم لفشل، وما عمل مثل ما يعملون، وما لاقى من القبول والمحبة واكتمال الشخصية في طبعهم هذا مثل الذي يتمتع به أولئك. وهؤلاء ندرة وقلة ينبتون في المجتمعات المتماسكة والمترابطة والتي تجمعها رقعة جغرافية ومحيط اجتماعي متشابه.. اذكر من هؤلاء شخصية فريدة عايشتها وعاينتها في طفولتي وصباي.. هذه الشخصية تركت في ذهني وعاطفتي انطباعاً مثالياً ورائعاً للإنسان السوي اللطيف الطيب والطاهر القلب الزكي النفس الذي يتدفق بالخير حتى في شكله وملامحه. كان رجلاً مهيباً طويلاً له ملامح صافية وكان ميمون النقية، بشوش الوجه دائم الابتسامة يزور حَيَّنا بين الحين والحين، فتشعر أن في الحي تغيراً تماماً، كما تتغير الأجواء حينما يزورها المطر. لست مبالغاً ولكنني أصف مشاعري عنه بدقة وأمانة وتلك مشاعر لاشك أن للطفولة والصبا وتكوينهما النفسي دوراً مهماً في رسم ملامح شخصيته. كان إذا زار الحي يزور الناس بيتا بيتا «يشرب قهوة كل بيت» يطمئن ويسأل عن الصغير، والكبير، ثم ينتقل الى البيت الآخر، وكان الناس يستقبلونه بالحفاوة، والمودة والترحيب، وكنت تشم رائحة العود في كل بيت، وكنت ترى البشاشة، والسعادة، والحبور، طافحة في وجوه مستقبليه.. كان محباً، وكان محبوباً.. كان يمر بنا ونحن نلعب، فيقبلنا، ويداعبنا، ويسأل عنا فرداً، فرداً، ويطلب منا أن نسمعه شيئاً من القرآن الكريم، أو النشيد، أو الشعر، ثم ينفح كل واحد منا ريالاً أو ريالين يضعها في كفة أو يدسها في جيبه، وقبل أن يغادرنا ينصحنا بالاجتهاد، والمذاكرة، وطلب العلم، وعدم إضاعة الوقت في الإهمال أو العبث.. وكنا نشعر له بود، ونشعر له بهيبة، وإجلال في نفوسنا، وكنا نرى في شخصيته الصورة الكاملة، والنبيلة، للرجل المتكامل النبيل. وغاب الرجل، وجرفتنا الأيام، وتعاقبت الأحداث، وشؤون الحياة، وفرطت من بين أكفنا تلك الأزمنة السعيدة، وظهرت في حياتنا شخصيات مختلفة، ومتعددة، ورأينا أناساً مختلفين، في مواهبهم، وقدراتهم، ونفوذهم، وأهميتهم، وكل منهم له ميزته، وله مكانته، وتقديره.. أكاديميون، وقياديون، ومبدعون، ولكنني أبداً لم أشعر تجاه أحد منهم بذلك الشعور من سيطرة، وهيمنة تلك الشخصية البسيطة، الفطرية النادرة.. حتى ليخيل إليّ أن مثل تلك الشخصيات القليلة، النادرة، تولد هكذا دونما تكلف، أو اجتهاد في التصنُّع ومحاولة تجميل السلوك، وإنما هي شخصيات مفطورة بتلك الجاذبية البسيطة الساحرة.. تلك الشخصيات التي ترسم على جدار الذاكرة لوحة رائعة، وصورة مثالية للإنسان النبيل. أعود وأقول إن للطفولة، والصبا، دوراً مهماً، في رسم تلك الملامح، وإعطائها ربما صفة الرمز النادر ربما للتوق، والعطش، النفسي في حالة التشكل إلى مثل تلك الشخصية..!! غير أن المؤكد أن تلك الأنفس كانت تنطوي على جاذبية خاصة، ..... في زمن خاص، وأبقت ذاكرة ورائحة خاصة لها في الوجدان.. وأظن أن تلك الشخصيات، لا يمكن أن تنبت في المجتمعات التي تعاني مما يسمى بالتعقيد الحضاري، والارتباك الاجتماعي، والاندفاع المادي المحموم، لأنها تماماً مثل الورود النادرة لا يمكن أن تنبت بين كتل الخرسانة والحديد، ولا بين خرائب الأنقاض. ورحم الله تلك الشخصية، ورحم الله زماناً أطلعها فقد كان زمان حب وخير ونقاء..؟!.