كلنا نعرف الواسطة، وكما نسميها (الكوسة والفيتامين) ويبدو أن من أطلق عليها هذه المسميات تلميحا أو تصريحا، كان يعرف فوائدها في سرعة هضم المعاملات والخدمات بغير حق. و «الكوسة» لا أعني بها الوساطة الحميدة والشفاعة الحسنة لأصحاب الحق لإحقاقه، أو تنازلنا عن حق برضا وطيب خاطر ابتغاء وجه الله، لكن أعني الوجه الآخر القبيح للواسطة بمظاهرها السيئة التي تورمت واستشرت في المجتمع كالنار في الهشيم، باللجوء لمعارف وأقارب وأصدقاء ذوي نفوذ لأخذ حق غير مستحق، أو إبطال حق أو إحقاق باطل.. يعني على كل لون وشكل وأبسطها تجاوز طوابير والبنوك والأجهزة الخدمية الحكومية والخاصة، وحجز مقعد (غير متاح) على الطائرة تأتيك به الواسطة بمجرد اتصال بصديق. من المفارقات أن البعض يتهرب من الشفاعة الحسنة والتوسط في الخير الذي يرفع ظلما ويعيد حقا مشروعا أو إعفاء من شرط واجب يثقل كاهل صاحبه، ولا ينتج عن ذلك مخالفة ولا إضرار بالآخرين، بينما تجد من يهرول إلى الواسطة المذمومة التي يشعر طالبها ومقدمها بزهو وخيلاء ولو أثم شرعيا ونظاميا، ويعلم أن فيها فساد أخلاق وسوء عمل، وهذا يترك نتائج خطيرة على المجتمع عندما تضيع الحقوق على أصحابها وإعطاء حقوق لغير أصحابها مما ينشر الإحساس بالظلم ويثير الضغائن بسوء استغلال النفوذ الاجتماعي والوظيفي. إنها (الفزعات) في غير محلها، ويساعد على وجودها وانتشارها الروتين والبيروقراطية في الأنظمة واللوائح وثغرات سوء تطبيقها، وعدم احترام نظم وأخلاق العمل وتجاوز أمانة الوظيفة وغياب الشفافية وضعف الرقابة. وعلاج هذه الظاهرة الخبيثة يستحق وقفة جادة لنشر ثقافة الشفافية والتأكيد عليها. فالواسطة في أمور بسيطة تؤذي معنويا، أما الجشعة البشعة منها فتتم من الأبواب الخلفية وتحت الطاولة بالرشى، للسطو على فرص أو أراض وغير ذلك مما يضيع على الدولة أموالا طائلة، والحاضر أمامنا ماثلا في قضايا تعديات ومحسوبيات لازلنا نتابع تحقيقاتها وقضاياها ومحاكماتها.. لابد من فتح ملفات الواسطة المنحرفة بمزيد من الرقابة ومكافحة الفساد والمكاشفة الدقيقة المبنية على أدلة، وذلك لحماية أخلاق المجتمع ومصالح الناس والأموال العامة. ونحتاج إلى تعزيز ثقافة النزاهة والأمانة والانضباط بالتربية وتفعيل الأنظمة وقبل ذلك مخافة الله. ومالا يدرك جله لا يترك كله.. نسأل الله العفو والعافية.