مرة أخرى هذه حكاية من تلك الحكايات التي لم تمت!! حكاية موجزة وسريعة ولا تغرق في التفاصيل الدقيقة والمتعبة.. ولا تحتاج إطلاقا إلى قرون استشعار!! ولا إلى تلك التأويلات والتفسيرات العقيمة.. ولا إلى ذكاء الأبالسة أو من يرتدون بزيف ثياب الملائكة.. ولا تخفى دلالتها على أحد. هي ببساطة كتلك الحكايات القديمة والأثيرة والبالغة الوضوح التي تروى غالبا عن ذلك التلاحم الحميم والمألوف بين أفراد الشعب السعودي وقادته الرحماء. هو رجل من أطراف الصحراء الملتهبة والقاسية والمضاءة رمالها بأشعة الشمس، وتشع قلوب رجالها بالصدق والولاء والحب.. لا تسألوا عن اسمه ولا عن قبيلته ولكنه من تربة هذه الأرض التي لا تعرف الزيف ولا الكذب. قدم إلى الرياض يجر خطواته المثقلة وعلى وجهه وعثاء السفر وفي عينيه «رمد أزلي» وهو بالكاد يرى. وقف كالطود الشامخ وسط الناس في بطحاء الرياض يسأل : «وين قصر الحكم» ؟! فرد عليه شاب متحضر ومتأنق ساخرا «وماذا تريد في قصر الحكم» ؟! قال الشيخ بصوت واثق وبنبرة حازمة : «ما هو بشغلك» ثم أدار ظهره وانصرف يسأل المارة: وين قصر الحكم؟! ودلوه.. ولكن عليه أن يقطع الشارع مرتين وفي الطرف الآخر القصر، وهز الشيخ رأسه واخترق الجموع وزحام السيارات وبقي ذلك الشاب المتأنق مذهولا يتأمل ذلك البدوي وبشته «الوبري» الرث وعينيه «المرمدتين» وعصاه التي تبلغ قامته وهو يجس بها الأرض رافعا رأسه في شموخ وكأنه يرى!! قالوا له هذا هو قصر الحكم.. وقبل أن يدخل القصر خلع حذاءه ودسه تحت ابطه لم يكن يعنيه أحد لا أعمدة الرخام ولا الفخامة ولا البلاط اللامع.. ولا .. ولا .. كان يهمه فقط أن يرى الأمير سلمان الرجل العادل الذي ملأ الأرض عدلا ورحمة وكرما.. قالوا له بأدب: الأمير لم يأتِ بعد.. فوضع عصاه على الأرض وقعد على البلاط.. فجاء إليه أحدهم يحدثه برفق ويشير إلى أحد المقاعد.. ويؤكد له أنه لا ضير ولا حرج من أن يرتدي حذاءه. ولكنه لم يجبه ولم يتحرك.. ولكن بعد برهة شقت عليه برودة البلاط التي لم يألفها فأخذ عصاه واتجه إلى الباب الخارجي وقريبا من السلم قعد فجاء إليه حارس الباب يشير إليه مبتسما إن هناك قاعة كبرى للانتظار.. فأشاح بوجهه ولم يجبه!! وفي هذه اللحظة توقفت سيارة ترجل منها الأمير سلمان بن عبدالعزيز.. قالوا له: لقد جاء الأمير.. فوقف مزهوا.. وصرخ بصوت جهوري «يا سلمان يا بن أكرم الرجال وأعدلهم». وتوقف الأمير مبتسما واقترب من ذلك البدوي وأمسك بيده مترفقا ودخلا معا وكأنهما صديقان.. ولا أحد يدري ماذا دار من حديث بين ذلك البدوي والأمير سلمان.. ولكن بعد بضعة أيام قليلة شوهد ذلك الشيخ الذي بالكاد يرى في مطار الرياض.. متجها إلى الدارالبيضاء ومنها إلى أسبانيا لعلاج عينيه عند أشهر الأطباء في العالم. المهم أن ذلك البدوي الرائع الذي بالكاد يرى شوهد بعد شهر يتجول في قاعات «الشراتون» في الدارالبيضاء وبدون عصاه وبهيئة أخرى لقد تحضر قليلا وأصبح له بدلة زرقاء ورباط عنق وعينان تلمعان تريان دبيب النمل، وسأله «الربع» ضاحكين لماذا لم تواصل رحلتك إلى أسبانيا لعلاج عينيك.. فأجابهم ضاحكا: لقد فتحت.. والذي يدخل المغرب ولا يرى جمال الدنيا فهو أعمى.