كنت، أيام الشباب والحماسة، من المؤمنين بأن الأمم ذات التاريخ والمجد الحضاري لا تهزم، فإن حدث وهزمت ستنهض من جديد لأن سوط حضارتها سيظل يلهب ظهور أبنائها المنحنية لتستقيم من جديد فيسعوا للارتقاء بأمتهم، لن أقول كنت غرا، بالخصوص حيال انتمائي لأمة لها بالإضافة للمجد الحضاري رسالة خالدة تشرفت بحملها منذ 14 قرنا جعلت هذه الحضارة ممكنة، مما يعني سوطا إضافيا يلهب ظهور أبنائها المنحنية منذ قرون، كذلك لن أقول أصبحت يائسا بعد كل هذه العقود، الأمل والخير باق في أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، في ذكرى مولده التي تحفنا بركتها وعبقها هذه الأيام، الأمل باق بوجود ضوء نهاية نفق تخلفنا عن الركب الحضاري والفكري حتى عن أمم تقل عنا إمكانات وثروات طبيعية وبشرية، الأمل باق مهما طال أمد هذا النفق، بمزيد من الصبر سنصل، بمزيد من العمل الجاد المخلص سنصل، بمزيد من المحاسبة على التقصير سنصل، وما ذلك على الله ببعيد. مناسبة الحديث كتاب جديد للبريطاني مارتن جاك بعنوان «عندما تحكم الصين العالم» صدرت طبعته الثانية قبل ثلاثة أشهر بعد طبعة أولى نفدت بعد أن لفتت الانتباه في العام 2009م وتمت ترجمتها لأكثر من 11 لغة عالمية، طبعته الثانية جعلته على رأس قائمة أكثر الكتب مبيعا في أمريكا لأسابيع، والسبب أن ما تنبأ به المؤلف في الطبعة الأولى يتماهى كثيرا مع ما حققته الصين فعليا في السنوات الثلاث بين تاريخ الطبعتين، وتميزت الطبعة الثانية التي زاد عدد صفحاتها على الضعف بتركيز خاص على إرهاصات العصر الصيني القادم وكيفية تأثيره على مسرح الأحداث العالمية وتغير موازين القوى وأماكن اتخاذ القرار، وكما يتنبأ المؤلف فإن بكين ستصبح مركز الكون الجديد، مما يعد أفضل رد على فوكوياما ونهاية تاريخه. ومما أكسب الكتاب مصداقية أن مؤلفه عمل بالصين لفترات كأستاذ زائر في المركز الدولي للدراسات الصينية وبعدد من جامعاتها، إضافة لعمق التحليل حسب مجلة نيويورك بوك ريفيو. ليست هذه مراجعة للكتاب وإن اتخذته تكئة لما أود قوله، أول ما لفتني قول المؤلف في المقدمة مؤكدا صحة زعمي القديم بتأثير البعد الحضاري في استعادة المجد القديم، يحذر المؤلف من محاولات كسر إرادة الدول ذات الموروث الحضاري الكبير التي يمكنها أن تمرض ولكنها لا تموت بل ستقاوم محاولات قهرها فهي إن هزمت عسكريا ستنهض من جديد بتوظيف إرثها الحضاري وشعور العزة والكرامة الوطنية الكامن والمترسخ لدى أبنائها، لينتهي المؤلف للقول إن الصين قدمت الدليل القاطع بإمكانية حدوث ذلك بقيمها و «خصوصيتها»، نجحت الصين بانفتاحها وبرغم رفضها للديموقراطية باستعادة مجدها. إن سألتكم فماذا عنا نحن العرب أصحاب الرسالة الخالدة أو عن أمة الإسلام الواحدة، ستقولون تقليب مواجع أو جلد ذات فات أوانه، حسنا لن أبكي على اللبن المسكوب، ولكن ماذا عن اللبن الذي سيسكب؟ هذه إمكانات نهضتنا تكاد تتقراها الأيدي باللمس، وها هي قيادة الصين للعالم تتبدى دون لبس، نصف قرن فقط من التخطيط والعمل الجاد أوصل الصين لمعالم مستقبلها المشرق ونحن ما زلنا نعاني غروب مشرقنا منذ قرون. لا نريد قيادة العالم، أن ننهض وحسب فإن فاتنا مثال اليابان أو كوريا أو نمور آسيا أو حتى نمور أفريقيا الجدد، ها هي الصين تقدم لنا النموذج الأفضل بإمكانية التقدم بنفس قيم المجتمع وأفكاره ومبادئه. كل من كان يشغلنا بدواعي التغريب والتشريق، أو بقضايا الأصالة والمعاصرة إنما كان يعرقل خطواتنا الأولى في رحلة الألف ميل، كل من كان يشغلنا بقضايا المذهبية والطائفية والمناطقية وكل قضية هامشية إنما كان يضع العثرات على طريق تقدمنا، هذه العثرات منذ نهضتنا الأولى قبل حوالي قرن ونصف هي لبننا المسكوب في كل صيف مضى ولبننا الذي سيسكب كل صيف آت.