وحده قصاص يومئذ كان يعي تماماً معنى ان يستقبل طفل ذلك الخبر، الذي أضاف إلى عمره رصيداً من الأسى بعد أن كان جو البهجة والدلال يغمران حياته وهو يقضيها لهواً ولعباً بين أقرانه فلا شيء كان يضاهي متعة اللعب والشقاوة لدى الأطفال، إنه حتماً ليس بالأمر السهل، خاصة وكما لاحظنا بأن تلك الأزمة داهمت حياته بشكل مفاجئ دون سابق إنذار، فالصدمة بمفهومها العميق لا تخلو منها حياتنا ويتفاوت وقعها في النفس فيختلف مقدار تقبلنا لها باختلاف أعمارنا وثقافاتنا، ولا تخرج عن أمرين إما أن تكون تدريجية وهي الأخف وإما أن تكون مفاجأة وذلك ما أمرّ قصاص وأثقل كاهله، بين عشية وضحاها انقلب حاله لطفل لا يجيد الحراك يتحسس أحد أطرافه فلا يجدها.. تجده مبعثراً بما يكفي لإثارة شفقة من حوله واستدرار عطفهم دون إرادة منه، يختل جسده في مواجهة توازنه... شعر بأنه فقد كل شيء.. ماذا يعني أن تشعر بأنك فقدت كل شيء؟ إن سيكولوجية الأزمة التي مر بها تتجلى في حياته بجميع مراحلها بدءا بالصدمة -إذ نلحظ ذلك في تصرفاته- وانتهاء بالقبول ولكن ليس بالقبول التام كما لاحظت.. يتخللها مرحلة الإنكار، حيث لم يستوعب فكرة أن يقبع في عقر داره كالنساء على حد تعبيره مما دل على معاناته وعمق ألمه، انتقلت معه الأزمة للاحتجاج ثم الكآبة يضيق صدره تارة ويتأمل حاله تارة أخرى، تلك النظرات التي تحاصره والممزوجة بالازدراء والنقص ويظهر ذلك جلياً مع أقرانه في المدرسة، في الملعب، في الحي، خاصة ذلك الموقف الذي سقط فيه منفعلاً أمام أقرانه من فرحه بفوز فريقه، تناسى عجزه في خضم فرحته إلا أن من حوله لم ينسوا عجزه.. فحجم السخرية والضحك يتعالى متغافلين حجم الألم الذي سيلحق به ليس بالجسدي لكنه النفسي حتماً.. إلا أن ذلك الصديق الذي ظهر في حياته كان بمثابة تخفيف له من وطأة ذلك الإحساس ورفعاً لروحه المعنوية.. ذلك الصديق الذي حقق له شبه التوازن وموجهاً خلال تلك الفترة من حياته.. ليختفي فيما بعد ويتعاظم حجم الألم بغيابه.. إحساسنا بالنقص أحياناً يولد فينا حب العزلة ويورث في نفوسنا تلك النظرة الدونية بأننا ناقصون.. وأن الناس من حولنا بلا شك يرون فينا ذلك العاجز القاصر.. إن إحساسنا ذلك بحد ذاته ذو مرارة لا يتذوقها إلا من تجرعها، قد تمر الأيام ولا يتذكر إلا النزر اليسير من صعوبات الحياة ومتاعبها ولكن لن تمحى من ذاكرته بسمة سخرية أو كلمة استخفاف أو نظرة شفقة تلقاها من أعين الآخرين، تصيب تلك النظرات مواقعها العميقة في النفس وقد لا تلتئم وربما قد تشكل أزمة نفسية لديه. ربما صغر سن قصّاص لم يكن كافياً لينمو فيه البعد التديني خصوصاً في تلك البيئة التي انغمس فيها مع خاله (توماس) وعمه (النتاري) اللذين أغدقا عليه بكل ما تزخر به حياتهما من تجارب ومغامرات في وقت ليس بالمبكر من ألمه. وحتى عندما تفاجأ بحياة (جده) ذلك الطاعن في السن وكأنها رماد اجتث في يوم عاصف.. نماذج حية مترادفة في سباق مع الزمن وتحد قد لا يجرؤ غيرهم على خوضها، فما أن يسدل الستار على ذلك اليوم المليء بمتناقضات الحياة إلا ويغرق في عمق ما بذاكرته من حزن، ولذكرى حبه وعجزه إزاء مواجهة عمه ينساق، وعندما يلهث بحثاً عن الحلم باذلا ما بوسعه إلا ويجده كسراب بقيعة. كانت هنالك أشياءٌ تجاوزها الزمان والمكان ما تزال عالقة في ذهن ذلك العم (النتاري) الذي ازدادت تجاعيده تعباً، هل لأن بذاكرته من ذلك الزمن الذي ليس بالقريب ما هو أكبر من أن يختصره في أقاصيص عابرة، أم هي مجرد أساطير مثيرة يتلذذ بسردها حتى لا يتنصل جمهوره منه، أم لأن تلك الأحاسيس الغزيرة التي بداخله والحنين لماض تقاعد منه لا يمكن كتابتها، ويتفنن بها لحظة استيقاظها ويبدع في سردها، أم لأنه رأى أن المستقبل لم يعد له مكان في الذاكرة فأعاقه ذلك عن استدراك ما بقي من عمره وبات يرى أن الحديث فيما سوى ذلك لا يعدو هباء منثورا.. إن منطق الفضيلة، النبل، والإعاقة في تأرجح متزامن خلال تلك الحقبة، بدءاً من المدينة وصولا لتلك القرية النائية حيث أهل قصاص وذووه، حتى سئمت الحياة ذلك التزامن وبات القيء أعراض تلك الحالة الوبائية وملجأها الوحيد للتخلص من تلك التراكمات، فالأرض لا تحابي أحداً فعلا، وربما قد ضاقت ذرعاً بمن عليها، فليس المعاق فقط من فقد الأهلية على أداء وظائفه الطبيعية في الحياة ولا من يحمل عاهة عقلية، سمعية، بصرية، حركية، ولا تنحصر أيضاً في الوظائف الفيسيولوجية، النفسية، الجسدية.. لكنه من عطل جسمه وجمد عقله وأمات مشاعره. إننا حين نمارس سلطة الكمال على المستضعفين في الأرض لنجرد الإنسانية من كرامتها ونبلها، نحن من نبدع في ابتكار المسميات ونتفاعل معها، أليس الطفل يتمادى ويكرر تلك العبارات التي لا تليق لإثارة غضبنا مرة أو للفت انتباهنا مرات، وإن تجاهلناه نسيها، أليس يتفوه بكلمة وتكبر معه بمعنى في حين أن معناها الحقيقي يتوارى خلف النص؟ وعندما يكبر يتعلمها وقد يتساءل لماذا أخفي عنه المعنى بضع سنين!. لا يمكننا أن نجرد الناس من أحلامها كأولئك الذين تعجبوا من تمكن (قصاص) من الكتابة في الجانب الرياضي كونه مبتور الساق، فهو قدره فعلا أن يكون مبتور الساق وقد قبله بجميع مسوغاته، ولكن غالباً ما يشترك الألم والحلم في قتل صاحبهما، كان يستطيع (قصاص) أن يمارس لعبة النسيان بجميع قواعدها بواقع جديد يبدع بسرده، لكن الصرخة التي بقيت حبيسة داخله عندما يقف الآخرون مشدوهين أمام عظمة ذلك الشخص وحالته، يضيق صدره ولا ينطلق لسانه.. أيغلب عجزه ذاك سيرته أم يغلب عليه؟ باعتقادي أن الوقت بات متأخراً للإجابة على ذلك السؤال فقصاص لم يقف ساكناً إزاء ذلك النقص قياساً بالآخرين.. انتهج لنفسه ذلك الطريق الذي وجد نفسه فيه وأبدع، لكنه عندما جرب أن يعيش حياته خارج الورق كدت أجزم بأن ثمة شيئا قد تغير في حياته أضحت (حمدة) الحلم الذي بدا أبعد بكثير من حقيقة ما يجري بدمه من عشق لها.. ودورها في حياته أعمق بكثير من أي فرد آخر. داخل كل منا جانب مظلم، جانب معاق، نحن من نسمح له بالظهور والتوسع، نحن من نضخمه بدلاً من أن نجعله يتلاشى.. أما أن يكون ذلك النقص شماعة نعلق عليها إخفاقاتنا فالمعذرة عقلي لا يستسيغ ذلك، فنحن بذلك من ننهك أنفسنا ونتبرأ منها بدلا من أن نقبلها، نحن من وأدناها بأيدينا فكيف بمن حولنا. * شاعرة سعودية