رواية غازي عبدالرحمن القصيبي «ألزهايمر» التي شاء أن يسمّيها «أقصوصة»، الصادرة بعد رحيله عن دار بيسان (بيروت)، رسالة ألم ومعاناة. فحين يقف الإنسان عاجزاً وحائراً وضائعاً، وكل الطرق أمامه مجهولة، يهيم بخطاه وكأنه يسير باتجاه رؤى ضبابية، لأنه غير قادر على تحديد مساره. كم هو مؤلم أن تكون الذكريات مدعاة لزيادة العذابات، والأشد إيلاماً هو عدم التذكر! «ألزهايمر»، مجموعة من الرسائل، تمكّن القصيبي من خلالها من أن يقدم للقارئ العربي في صفحات قليلة حملت في عمقها الكثير، من وصايا تحمل بين طياتها حكماً وعبراً، وأن حياة الإنسان مهما طالت لا بد من أن تتحول يوماً إلى مجرد ذكرى، والماضي قد لا يخلو من قسوة الحاضر. ترجم القصيبي في هذه «الأقصوصة» كل ما جال في فكره ووجدانه وذاكرته وعصارة خبرته. وكل هذا من خلال راوي الأقصوصة يعقوب العريان، الذي كتب لزوجته نرمين إثنتي عشرة رسالة أثناء إقامته في مصح لمرضى «ألزهايمر» في سانتا باربره في أميركا، بإشراف طبيبه البروفسور جيم ماكدونالد الذي أصبح مع مرور الوقت صديقه. ومرضى المصح كما يصفهم العريان هم «صفوة الصفوة» وبعضهم من المشاهير. وقد بثّ في رسائله إلى زوجته مشاعره وأحاسيسه، راسماً فيها ظلال فلسفته العميقة البعيدة المدى في عراكه مع اليأس، وفي مواجهته المرض، الذي يهدد كيانه وينبئه باقتراب تلاشي ماضيه من خلال العطب الذي أصاب ذاكرته، واستحواذ الهواجس التي تتأرجح في مخيلته لكونه عرضة للزوال. وهو يرى فسحة رؤاه الآنية والمستقبلية تضيق، وعجلة القدر تؤكد مرارة دروب الحياة، تسير بثبات لتسحق ماضيه بأحلامه المعلقة وأحزانه الغائرة. ربما وجد العريان في كتابة الرسائل، ما يؤنس وحشته، فالإحساس بالخوف هو رد فعل طبيعي في مواجهة التحديات الطارئة، والتجارب القهرية القاسية التي تجبره على ملامسة الموت ملامسة حقيقية. حين تأكدت للعريان إصابته بالزهايمر، بدأ يراقب نفسه ويتنبه الى التغييرات في شخصيته، فخشي تسارع ظهور أعراض المرض، التي تتمثل بفقدان القدرة على القيام بالوظائف اليومية، أو بالاضطراب في الحكم على الأشياء، والتوهان عن الأشخاص الذين يحبهم. ويعبر عن قسوة هذا المرض قائلاً: «صديقي الزهايمر لا يفرق بين شيء جيد وشيء سيئ». ويضيف: «بلا ذاكرة لا توجد تجارب. لا يوجد سوى فراغ. وفراغ الموت». لذلك وقف من الحياة ومن مرضه موقفاً واقعياً، حين آثر الهروب إلى الوحدة والغربة، وتقبل الألم وتعايش معه، فقرر الانسحاب من حياة زوجته نرمين وولديهما، زهير وهيفاء، كي لا يزعجهم، أو قبل أن يكون هناك مبرر لإزعاجهم. يعلم يعقوب أن حب زوجته له عميق وكبير، ويعلم أنها لن تتخلى عنه، ولكنه لا يريد أن يتحول حبها له مع مرور الوقت إلى شفقة وعبء ثقيل: «لن تبقى سوى النقمة المتخفية تحت قناع الشفقة». نرمين هي الزوجة الثالثة للعريان، وهي بالنسبة إليه امرأة ليست ككل النساء، فهو يصفها بالنادرة، ويرى أنه كان محظوظاً جداً حين تعرّف إليها. وحين يذكر أنه يكبر زوجته بربع قرن، نجده ينتقد «أسر الأرقام»، ويتساءل: «هل هناك قفص أضيق من هذا القفص؟»، مؤكداً أن السعادة الحقيقية تكون في التخلص من الأرقام. تمكّن القصيبي من خلال أقصوصته هذه، من تمرير عدد من الانتقادات الاجتماعية والسياسية بأسلوب ساخر لا يخلو من التهكم، حين سرد في إحدى رسائل العريان إلى زوجته، وبطريقة ذكيّة جداً، السياسة الأميركية - الصهيونية وعلاقتها بالعرب على لسان زميل له في المصح، جعله مرض الزهايمر يدّعي أنه «هنري كيسنجر»، الذي اتفق مع الرئيس الأميركي «ريتشارد نيكسون» على إرسال الأسلحة المتطورة إلى اليهود، وإمدادهم بأكبر جسر جوي في التاريخ. وبعد انتهاء المعركة وانتصار اليهود، يذهب نيكسون إلى العرب ويقنعهم بأن ما فعلوه، كان لمصلحتهم. وانتقد أيضاً فصل النساء عن الرجال، ورأى أن الاختلاط: «لم يصبح منكراً عظيماً وطامةً كبرى إلا في عصور الأمة المتخلّفة». وأكد الدور الذي يلعبه الحظ، حين يحالف البعض ويتخلّى عن آخرين، فالعريان لم يكن ليصبح رئيساً لمجلس إدارة بنك «الدهناء» لولا الأسهم التي ورثها عن والده. وأن زوجته نرمين، التي لم تكن لتصبح مديرة قسم الاستثمار في بنك «المعادي» الدولي، ولم يتجاوز عمرها الثلاثين عاماً، لو لم يكن والدها يملكه. ثم سخر من مرض ألزهايمر قائلاً: «إن هذا المرض أرستقراطي جداً وأن عدداً من «صفوة الصفوة» في الغرب أصيبوا به». واستشهد بقول «رونالد ريغان»، الذي أصيب بالمرض: «هذا مرض جميل! تُقابل الأشخاص أنفسهم وتظن أنك ترى وجوهاً جديدة كل يوم». التاريخ النفسي للذاكرة هو الذي يصقل ذهنية المرء، لذلك تتفاعل الذكريات في ذهن العريان وتأخذ حيّزها، فتصبح كالأرواح التي غادرت أجسادها، ولم تتحرر من سجن الأرض، فتغدو تائهة بلا مأوى. ثم يفاجئنا الكاتب حين يُحيي الذكريات، ويبث فيها الروح، ويجعلها تهاجمه بإصرار، كأنها تريد أن تسجل نفسها، وتثبت أنها على قيد الحياة، قبل رحيلها إلى الأبد. وقبل أن يذهب بعيداً يعود ويتساءل: «هل للذكريات حياة؟ هل لها روح؟ وهل لها عقل؟». كل هذا وما زالت ذكرى «المرّة الأولى» تزعجه، هو يحاول طردها، لكنها تفرض نفسها على ذاكرته: «لأنها تجيء ثم تتملص وتهرب قبل أن تتكشف». ويضيف: «أليست الأشياء السيئة في طفولتنا سير العذاب الذي نعاني وطأته طيلة حياتنا». وحين يتناقش مع صديقته في المصح البليونيرة «اليزابيث غرينغر» في موضوع ذكريات المرّة الأولى، تخالفه التوجّه حين تقول له: «مشكلتي هي مع ذكريات آخر مرّة!». وفي خضم المعاناة والأفكار المظلمة التي مرّ بها العريان، بقي متمسكاً بظلال الأمل، فهو كالغريق الذي يبحث عن قشة النجاة. فالحب بالنسبة إليه أقوى من الموت، إلا أنه عجز عن الانتصار على المرض اللئيم. ويتساءل إذا كانت هناك قوة تقهر النسيان، فلا يجد أمامه قوة أعظم من قوة الإيمان. ثم يتساءل مرة أخرى: «ماذا عن الإيمان؟ أليس الإيمان أقوى من الحب؟». وحين لم يجد الأجوبة التي بحث عنها، ارتأى أن يواجه واقعه، فخاطب زوجته في رسالته الأخيرة: «الحق أقول لك يا نرمين: الكرامة البشرية مرتبطة... بالعقل البشري. إذا ذهب العقل ذهبت معه الكرامة». ويبدو أن قلبه لم يتحمل ضياع عقله، ووجد في الموت الجواب والمخرج، فتوفي على أثر نوبة قلبية حادة ومفاجئة. وبُعيد رحيله سلّم الدكتور «جيمس ماكدونالد»، أوراق العريان ورسائله إلى زوجته، بحسب وصيته. على رغم حجم «الزهايمر» الصغير، إلا أنه يحمل بين ثنايا صفحاته فلسفة الحياة والموت، وحكم القدر، والإنسان كقيمة ووجود، وصدامه مع الواقع، وصراعه من أجل البقاء. وتغلغل الماضي الذي له الدور الأكبر في حياتنا، الذي عبر عنه القصيبي خير تعبير حين قال: «آه! كيف تستطيع أمّة أن تصنع مستقبلها وهي في قبضة ماضيها يعصرها عصراً». عبارات هذا الكتاب تؤسس لأن تكون رؤية جديدة، تحمل مغزى وانطلاقة حرّة. فالزمان غفلة قد يحمل في غيبه الحلم والأمل، أو التيه في ظلمات اليأس والانكسار.