(الأرض لا تحابي أحدا) رواية للروائي الشاب علوان السهيمي ؛ تتحدث عن النقص ومعنى أن تفقد عضوا من جسدك، إذ إن بطل الرواية ( قصّاص) تبتر ساقه وهو لا يزال طفلا. الرواية اتخذت من الصراع الداخلي ومن ضجيج النفس محورا حساسا جدا تناوله الكاتب بحرفية لافتة. يقول قصّاص: "عندما قفزت في بطن الحفرة بسهولة طاغية، لم تقع قدمي إلا على ذلك المسمار الصدئ الدنيء؛ وكأنه يسعى لتحقيق انتصاره لفقد مكانه في أي حائط أو لوح بالإيغال في قدم طفل!" هذه هي قصة الساق المبتورة، التي سيلاحقنا فقدها طوال صفحات الرواية أو قل طوال صفحات الحياة! حلم.. وإذا كان "الحلم وحده ما يجعلنا نفكر كثيرا" كما قال ذلك الأعمى الهندي البائس، فالحلم هش، والواقع بائس، الحياة التي يباشرها قصّاص يتعامل معها بازدواج وتناقض وعشق للرماد ولونه، وإذا كان العيش بازدواج " ظاهرة قدرية" تتصالح معها النفس، لكي يشعر ذاك بأن ما هو حق ومنطق لا يعدو كونه زيفا وحلما قبيحا؛" لأن الأحلام تتلاشى مع بداية الإشراق واضمحلال العتمة" وفي اللحظة ذاتها يرى "أنه ليس أفضل من الوصول إلى الحلم إلا الموت دونه" والموت في هذا العالم حلم والحياة عذاب قسري، كل هذا يتجلى عندما يعي قصاص؛ والوعي لعنة كبرى في الحياة "حين بدأت أعي مت!" فالأخلاق عهر، والرقص بله، والرياضة حلم، والتغابي شجاعة، و"الأسوياء هم مجرد قذارات في الطرق!" تناقض.. إن التناقض لا يتجلى إلا عند شخصين، شخص يبحث عن الكمال الجسدي، وآخر يبحث عن الكمال الروحي، وعليه فيكون المنشأ الحقيقي لهذا التناقض هو النقص، فالأول يحاول أن يتقمص الكمال الجسدي، هو يفتقر إلى عضو أو إلى حاسة، هو يشعر بصدام مستمر مع واقعه، لذا تجد الموازين تختل عنده، فلا تهمه معايير البشر أو قوانينهم. إن شخصية، مثل شخصية الشيخ حسني في فيلم ( الكت كات) يمارس تناقضه بكل فجاجة وسخرية، فهو أعمى يقود أعمى آخر، يذهب إلى السينما، يقود الدراجة النارية، يلبس زيّ الصالحين لأنه حافظ للقران ومن خريجي الأزهر، لكنه يجالس الطالحين ويحشش معهم ويغني إلى الفجر لأنه من خريجي معهد الموسيقى أيضا! وذاك الذي يدعي الهداية، سيكون متناقضا لأن البشر جُبلوا على النقص فلن يكون مهتديا على الدوام، إن التناقض هنا حالة إنسانية صادقة، وهو أمر صحي للغاية، فما يمارس من أمور متناقضة، تعتبر حيوية جدا للعيش. قصّاص لم يجد عزاء إلا في دخان يغمره " بالتخفف من عناء الحزن" أو قذف"شتائم في أوج زهوها!"، رغم ذلك هو أبيٌ جدا، لا يرضى بالعجز فروحه روح محارب، ولا يريد أبدا " أن يربو على سلم الحماقات" بسبب الاتكاء على العجز! يقدس حزنه " لأنه لا يأتي إلا فردا" وفي ذات الوقت " يحتاج إلى أطنان من النبل ليغفر لعالمه" لأن العالم لا يريده أن يعيش سويا، يريده أن يكون ناقصا،بل يريده أن يكون مدانًا بسبب النقص، فكيف له أن يملك الحلم! وبعد : إن هذا الحشد من المشاعر المدونة في صفحات الرواية ال (280) يجعلك أمام كتلة من المشاعر الإنسانية، والعقد النفسية، والإعاقة الذهنية، والحزن الطاغي، والفلسفة العميقة، التي يصعب استيعابها نفسيا؛ إننا نتعامل مع كلمات على ورق دون مباشرة لحياة، ورغم أن ما كتبه علوان يعتبر أشبه بمعجزة إذ إنه يتحدث نيابة عن إنسان مكلوم يشعر بالنقص إلا أنه أجاد، أن نتحدث عن تجربة عملاقة ونحن أقزام فهذا بلا شك مغامرة سردية مرعبة،، رغم هذا أشعر أن الكتابة عاجزة عن الصدق، لكنها تحاوله، تعطينا مشاعر لكنها مقتضبة، وحقيقة لكنها باهتة، الرواية تقوم بجمع هذا الزخم الهائل لتشكل سيمفونية حزينة تكتنف الروح والجسد والحياة .. (الأرض لا تحابي أحدا )، عملٌ مميز، صاحب ذلك فلسفة جميلة و أسئلة وجودية شائكة، وأخرى عظيمة معلقة، ورغم خذلان التقنية إلا أنها لم تؤثر في روح العمل، لأن ما ذكر سابقا يشفع بقوة لهذا العمل المميز! * كاتب سعودي