على الرغم من المحاذير التي تنطوي عليها حقيقة تشكيل الموارد النفطية لنحو 90 في المئة من دخل المملكة، الأمر الذي يفرض تحديا ضخما يتعلق بضرورة الإسراع في تنويع مصادر دخلنا الوطني، إلا أن هذا الواقع له مردوده الإيجابي الملموس على دخل المواطن وكذلك على معدل دخل الفرد قياسا إلى الناتج المحلي الإجمالي ذلك أن الارتفاع المتواصل لمقدار العائدات النفطية قد مكن الدولة ليس فقط من الوفاء بالتزاماتها تجاه مختلف متطلبات التنمية إلى حد كبير، ومساعدتها على بناء فوائض مالية ضخمة وتخفيض الدين العام إلى مستوى قياسي، بل أتاح لها أيضا إعطاء ميزة مالية مهمة للمواطنين، قلما توفرها دول لشعوبها في التاريخ الحديث. الميزة المالية وتوضيحاً لذلك لا بد من التذكير والتأكيد في ذات الوقت على أن ارتفاع الدخل الحكومي من النفط منذ الطفرة الأولى في سبعينيات القرن الماضي، ووصول أسعاره لمستويات قياسية في السنوات الخمس الأخيرة -على الرغم من تراجع الأسعار خلال بعض السنوات- قد أتاح للمواطن ميزة مالية مهمة على الصعيد الشخصي ولا تتيحها غالبية دول العالم لمواطنيها، وقد يغفل عنها الكثير من المواطنين ويعتبرونها من المسلمات وأقصد بها عدم فرض أية ضرائب في المملكة سواء على دخول الأفراد أو على السلع والخدمات؛ ليس ذلك فحسب بل إن الدولة دأبت على انتهاج سياسة تستهدف تقليل الأعباء المالية عن مواطنيها من خلال تقديم دعم كبير للسلع والخدمات الرئيسية كالماء والطاقة والمواد التموينية الأساسية، إضافة للقروض طويلة الأجل ودون فوائد لدعم الإسكان وبدء المشاريع الصغيرة بل حتى تيسير الزواج وبناء الأسر الجديدة. حق المواطنة وقد يقول قائل إن بلادنا غنية بثروة النفط وإن ما تقدمه الدولة ليس منة من الوطن ولكنه حق المواطن على بلده التي انتظم معها بعقد المواطنة وما يفرضه عليه ذلك العقد من بنود عديدة في مقدمتها الولاء للدولة والطاعة لولي الأمر؛ وفي مقابل ذلك فإنه يتعين على الدولة توفير مقوِمات العيش الكريم للمواطنين؛ وهذا صحيح ولكن هل تقوم باقي دول العالم لا سيما الغنية منها بتقديم دعم مماثل لما تقدمه بلادنا ليس فقط لمواطنيها بل وللوافدين المقيمين على أراضيها؟ حتى إن قامت بعض الدول بتقديم أشكال متفاوتة من الدعم فهل تقوم بإعفاء مواطنيها من الضرائب؟ لا أعتقد أن هناك مواطنا لا يعرف الإجابة البديهية على هذا السؤال. وحتى يمكن تصور أهمية غياب الضرائب والإعانات من حياة السعوديين، دعونا نتساءل عن المدى الذي كان من الممكن أن تصل إليه تكاليف المعيشة في المملكة بدونهما، وتأثير النمو التضخمي سواء المحلي أو المستورد على أسعار السلع والخدمات والأجور وأسعار الصرف في السوق السعودية. تواصل التنمية نعلم أن هناك ثغرات في بعض جهود التنمية في بعض المناطق؛ بسبب الإهمال تارة أو بسبب الفساد تارة أخرى، كما أن هناك مطالب لبعض الفئات الاجتماعية التي تعتقد أن ما تم تنفيذه من مشروعات التنمية لا يزال دون التطلعات، هذا فضلا عن عدم التوصل بعد لحلول مناسبة لبعض التحديات الرئيسية كخلق فرص التوظيف، وتطوير نوعية التعليم، وتوفير المساكن بتكاليف وآليات مناسبة، وزيادة طاقة الخدمات الصحية ولكن كم عدد الدول التي نجحت في تجاوز جميع تحدياتها الكبرى؟ وماهي الفترة الزمنية التي تحققت خلالها إنجازاتهم تلك؟ ورغم ذلك فإن تطلعاتنا لمستوى حياة أفضل لا ينبغي أن تقلِل من أهمية ما نجحت الدولة في تنفيذه على أرض الواقع طوال عقود مع استمرار جهود الحكومة للتعامل مع الأولويات وتجاوز المعوقات وتوالي جهود ومبادرات الإصلاح على كافة الأصعدة. تمويل العجز يبقى أن أشير إلى أن ما دفعني لكتابة هذا المقال هو الجدل الكبير الذي تابعته باهتمام مختلف وسائل الإعلام الدولية في الآونة الأخيرة بشأن كيفية تجنب الولاياتالمتحدة الانزلاق للهاوية المالية، وانتهاء بتوصل المشرعين الأمريكيين قبل أيام، وبعد ترقب وانتظار من قبل كافة شرائح المجتمع الأمريكي إلى اتفاق يحمي مواطنيهم من الاضطرار لدفع المزيد من الضرائب التي كان الهدف الأساسي منها هو تمويل عجز الموازنة، وبالتالي تجنب دخول الولاياتالمتحدة في مرحلة ركود اقتصادي حتمي، كان سيقضي على بوادر الانتعاش الطفيف بعد أن وافق الكونجرس على مشروع قانون يوازن بين الاقتطاعات الحادة في المجالات الخدمية للمواطنين وبين زيادة الضرائب على الطبقة المتوسطة. مخاوف ضريبية ومن أجل تقدير الميزة المالية التي يتمتع بها المواطن السعودي ومقارنتها بمدى المخاوف التي انتابت الأمريكيين من احتمالية فرض المزيد من الضرائب التي ستتقطع من دخولهم وستقلص من قدراتهم الشرائية، وحساسية الفترة العصيبة التي سبقت التوصل لذلك الاتفاق، تكفي الإشارة إلى ردود الأفعال ليست الأمريكية فقط بل والدولية بعد الإعلان عن التوقيع عليه، حيث أسهم في تقليص المخاوف الاقتصادية وشجع المستثمرين في أسواق المال حول العالم على التداول، ليرتفع مؤشر داو جونز بنسبة 2 في المئة ومؤشر لندن بنحو 2.3 في المائة ومؤشر فرانكفورت بحوالى 1.9 في المئة، كما صعد سعر خام برنت متجاوزا حاجز 112 دولار للبرميل، وأنهى معاملات عام 2012 بأعلى متوسط سعر سنوي على الإطلاق. تنويع الدخل ورغم نجاح أقطاب السياسة الأمريكية في التوصل إلى إتفاق اللحظات الأخيرة، إلا أن المشروع الذي تمت الموافقة عليه سيترك مشاكل كثيرة في الميزانية الاتحادية دون حل لمهلة أخرى ستنتهي في غضون شهرين. وعود على بدء فإن ما ننعم به في المملكة بفضل من الله ثم بتوجيهات ولاة الأمر في تخفيف الأعباء المالية عن كواهل المواطنين من امتيازات كثيرة، في مقدمتها عدم اضطرارنا لدفع ضرائب هو إحدى أبرز المزايا التي تفتقدها الكثير من الشعوب في مختلف دول العالم بكافة نظمه السياسية وأنظمته الاقتصادية، متطلعين إلى الوقت الذي نتمكن فيه إن شاء الله من تنويع مصادر الدخل الوطني، وإكمال البنى التحتية والفوقية، وعدم الارتهان لأسعار النفط المتقلبة. سائلين ألله أن يديم على بلادنا الغالية نعم الأمن والاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي. @gbadkook تويتر