لقد أدرك البشر تفوقهم على غيرهم من الكائنات من خلال ملاحظتهم لأنفسهم، والسمة الفاصلة (والفاضلة) التي أدركوها هي العقل، وقد كان إدراكهم الأول ليس لماهية العقل بل لأثره، والأثر هو الإبداع الذي أضافه البشر إلى العالم الطبيعي، ففي الحالة الطبيعية كان الإنسان على مستوى واحد مع بقية الحيوانات ولكن مع تطور العقل وآثاره ارتفع درجة عنهم، والذي ارتفع به البشر عن البقية هو (الثقافة)؛ والثقافة في معناها الواسع هي كل ما يضاف إلى الطبيعة من مخترعات، وهذه المخترعات تتفاوت بشكل كبير، فمنها ما هو معنوي كالأخلاق والقيم والسياسة واللغة، أو مادي كالمصنوعات الأخرى. بناء على ما سبق، يمكنني القول إن الإبداع هو غاية الوجود البشري، وهو غاية خلقتها ظروف الحياة الإنسانية وطبيعته الممتازة عن غيره، وحينما أجعل الإبداع هو الغاية فإني أربطه بمفاهيم كالتطور والنمو والتحسن. الإنسان لا يحب أن يستقر على حالة واحدة مدى العمر، إنه مدفوع بالملل وحب الاطلاع والعيش الأفضل، كما أنه حيوان عاقل؛ والعقل من طبيعته أن يعمل، وقس على ذلك في ما يتعلق بالحضارة، فكما أن الفرد يبدع فالحضارة كذلك تبدع. إن الحضارة -بالقياس- كينونة (عاقلة)، وهي ترمي إلى التحسن والتطور ما لم تعقها العوائق. وأنا أصر على كلمة (التحسن) لا مجرد (التغير) لأن العقل يدرك الصواب والخطأ من خلال تجربته التاريخية الطويلة فيجتنب الأخطاء ما وسعته حيلته. وحسبنا باجتناب الزلل طريقا للتحسن والنمو. الإبداع الحضاري هو حصيلة الإبداعات الفردية وشيء فوق ذلك!. هذا الشيء هو (التقاليد) التي تكسبها الحضارة من استمرار أفرادها في الإبداع، سواء أكان إبداعا سياسيا أو علميا أو فنيا أو سلوكيا، هذه التقاليد ستكون مثل المناخ المهيأ لكل فرد ذي موهبة، هذا المناخ أو الفضاء الحضاري يمتاز بسمات مهمة تجعل الإبداع مضمونا: الحرية، تقدير المبدعين، توفير التواصل والتفاعل بين المبدعين، دعم الإبداع والاستفادة منه على المستوى القومي أو الوطني ثم العالمي. إن الديمقراطية من ضمن الفضاءات الرائعة التي ابتدعها البشر للمحافظة على الإنجاز وتحقيق التطور والعدالة، ففي فضاء الديمقراطية ستتحقق شروط الإبداع التي أشرنا لها سالفا، فهي فضاء تنافسي حر؛ إنها ميدان للعقول لكي تبدع ما في وسعها، لذا فليست الديمقراطية تلك الآلية الصارمة للاقتراع والانتخاب، بل هي مناخ حر، ومتى انعدمت الحرية من هذا الفضاء أو المناخ فسينعدم الإبداع وتصبح الديمقراطية مجرد آلية شكلانية لإعادة إنتاج الفشل والإخفاق والفساد كما هو حاصل في أغلب الديمقراطيات الشكلانية. ونخلص من هذا إلى أن الإبداع والإنجاز والتطور أو التحسن -بوصف هذا كله غاية للوجود الإنساني- هو المعيار الحقيقي الذي نقيس به نجاح التجارب الديمقراطية من فشلها، فإذا فشلت ديمقراطية ما، فاعرف أن ثمة ركنا ركينا لم يستوِ ولم يتجذر في المجتمع، ألا وهو الحرية. ومن الخطأ أن نجعل الحرية مجرد آلة أو عرض من أعراض الديمقراطية وأن صناديق الاختيار هي جوهرها، بينما العكس هو الصحيح!. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة