مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    اتحاد الغرف يطلق مبادرة قانونية للتوعية بأنظمة الاستثمار في المملكة والبرتغال    الاحتلال لا يعترف ب (الأونروا)    «الكونغرس» يختار الرئيس حال تعادل هاريس وترمب    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    النصر لا يخشى «العين»    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    المملكة ومولدوفا تعززان التعاون الثنائي    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    «حديقة السويدي» من ثقافة باكستان إلى الأسبوع اليمني    شتاء طنطورة يعود للعُلا    «الأسبوع العربي في اليونسكو».. ترسيخ المكانة الثقافية في المملكة    12 تخصصاً عصبياً يناقشه نخبة من العلماء والمتخصصين بالخبر.. الخميس    برعاية الأميرعبدالعزيز بن سعود.. انطلاق المؤتمر والمعرض الدولي الرابع لعمليات الإطفاء    ليلة الحسم    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    سلوكيات خاطئة في السينما    إعادة نشر !    «DNA» آخر في الأهلي    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    1800 شهيد فلسطيني في العملية البرية الإسرائيلية بغزة    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    رئيس الشورى يستقبل السفير الأمريكي    مسلسل حفريات الشوارع    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    تنوع تراثي    منظومة رقمية متطورة للقدية    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    في شهر ديسمبر المقبل.. مهرجان شتاء طنطورة يعود للعلا    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    ترمب وهاريس في مهمة حصاد جمع الأصوات    أمير تبوك يستقبل قنصل بنغلاديش    «تطوير المدينة» تستعرض التنمية المستدامة في القاهرة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على مناطق المملكة حتى السبت المقبل    وزير الدفاع يستقبل نظيره العراقي ويوقّعان مذكرة تفاهم للتعاون العسكري    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    قائد القوات المشتركة يستقبل الشيخ السديس    الأمين العام للتحالف الإسلامي يستقبل وزير الدفاع العراقي        حرس الحدود بعسير يحبط تهريب 150 كلجم من القات    مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلاغ لمن يتدبر .. «الإسلام الدين الحق .. لخلاص الخلق»
نشر في البلاد يوم 01 - 10 - 2009

إن المسألة التي اطرحها اليوم هي في الصميم من حياتنا.. وهي المسألة التي تفرض نفسها في كل ناحية من نواحي نهضتنا وتطورنا.
لقد أفاقت الأمة العربية بعد إغفاءة طويلة فوجدت نفسها قد أحيط بها.. وضربت حولها السدود ووضعت في أيديها القيود.. وإذا أرضها مقسمة إلى أقطار ودول، تفصلها الفواصل والحدود، وتراثها الثمين مغشي عليه بالأطمار والغبار.
مررت بالمسجد المحزون أسأله
هل في المصلى أو المحراب مروان؟
فلا الأذان أذان في منارته
إذا تعالى ولا الآذان آذان
فكانت انطلاقات للدفاع عن الذات عن الأرض والنفس والمال والتراث والعقيدة واللغة والثقافة.. انطلاقات متلاحقة للتحرر من الأجنبي الواغل.. من استعماره واحتلاله.. ونفوذه وسلطانه وكان تطلع وجهد للاتصال.. اتصال الأرض بالأرض والحاضر
بالماضي.. اتصال في المكان والزمان لوحدة الأرض.. ووحدة الشخصية عبر الزمان.. والآن وقد قطعنا في بناء كياننا اشواطاً في السير نحو بعث تراثنا الاسلامي مراحل سواء من الوجهة المادية او من الجهة المعنوية.. في إشاعة الفكرة وبعث الوعي وتعميقه في النفس والوجدان.. تواجهنا اسئلة كثيرة ترتسم امامنا وتقطع علينا الطريق وتلح في طلب الجواب.
هل بناء كياننا وبعث تراثنا غاية نقف عندها هي قصارى الجهد ومنتهى الأمل؟ آمل أن وراء ذلك أهدافاً بعيدة وغايات أخرى.
نحن نسعى بجهدنا لنلحق بركب الحضارة الحديثة وتدارك ما كنا فيه من تخلف.. فهل منتهى أملنا أن نكون كإحدى الدول المتمدنة المعروفة؟ وهل يمكن ذلك؟
تذكرني هذه المسألة بمسألة رياضية كانت تطرح علينا حين كنا في المرحلة الثانوية: طائرة تطير في الجو والمسافة بيننا وبينها في لحظة ما معروفة يراد اصابتها بقذيفة فإذا حسبنا سرعة القذيفة والزمن الذي تحتاجه لقطع المسافة الى النقطة التي كانت فيها الطائرة في لحظة ما من الزمن.. وجدنا انفسنا امام مشكلة وهي ان الطائرة ليست ثابتة بل تكون قد قطعت مسافة جديدة اثناء اختراق القذيفة ولذلك يجب ان نحسب الامرين معا سير الطائرة في اتجاه افقي متباعد بسرعة معينة وانطلاق القذيفة بسرعة معينة باتجاه صاعد متقدم في اتجاه الطائرة.. والتقاءهما في نقطة من الفضاء وفي زمن معين.
ان الدول التي نحتذي بها ونتخذها هدفا للوصول ليست ثابتة راكدة بل متحركة تغذ السير وسرعتها متزايدة ايضا فإذا سرنا بسرعتها لم ندركها. فالجسمان المتحركان في اتجاه واحد لا يلحق الثاني منهما الأول إلا اذا كانت السرعة متزايدة غير ثابتة هذا إذا لم يتغير اتجاه السير في هذه الحضارة اذ من الخطأ بل من العبث أن نبحث عن أنفسنا ونهضتنا وحركتنا بنظرة منعزلة فنحن في مجموعة كبيرة تتحرك كلها ولا بد أن نعرف موقعنا منها وأن نرسم حركتنا ونخطط لها ضمن الإطار العالمي والتخطيط العام.
فما هو موقعنا من العالم؟ ما هو موقعنا من الحضارة العالمية؟ أين نضع أنفسنا؟ وما هي امكانياتنا لذلك؟ هل تقتصر القضية على حساب المسافة والسرعة في نظرة كمية؟ ام ان ثمة عامل الكيفية والنوع؟ هل اللحاق بالركب او السبق امر عادي صرف؟ ام ان ثمة وجها آخر للمسألة؟ فقد يكون من الممكن ان نغير الطريق ونخالف في الاتجاه والهدف اذا وجدنا الرائد المتقدم امامنا قد ضل الطريق وأخطأ الوجهة وانحرف عن الهدف.
فبرتراندرسل يقول: ان عناصر الحياة ثلاثة: الغريزة.. والعقل.. والروح.. وان هذه الحضارة الحديثة قد اهتمت بالعنصرين الاولين وهما الغريزة والعقل ولكنها لم تهتم مطلقا بالروح.. ان العقل يرينا ان من الخير ان نفعل كذا ولكن عنصر الروح وحده يمكننا ان نشعر شعورا انسانيا عاطفيا وقلبيا وان نحس بإحساس الآخرين فالعقل والغريزة لا تحلان المشكلة ولابد من انسجام العناصر الثلاثة: الغريزة والعقل والروح وتنميتها تنمية قائمة على الانسجام حتى تسير الحضارة على طريقها السوي وهو يرى ان العالم بحاجة الى فلسفة جديدة على هذا الاساس يجعل غاية الانسان خارج هذه الحياة.
واما الدوس هيكسلي صاحب كتاب الوسائل والغايات يرى ان اكثر شعوب الارض بدلا من ان تقترب نحو المثل الاعلى تتباعد عنه بسرعة، ان التقدم الحقيقي في رأيه هو التقدم في الخير والاحسان وان ما يقابل به الرأي العام في القرن العشرين أخبار الوحشية والتقتيل والصور والأفلام الممثلة لذلك هو شاهد على ان هذه الحضارة لم تكتمل.. ثم يضرب على ذلك امثلة من الكذب المنظم في الدعاية واثارة الحقد والغرور والتهيئة للحرب فيقول: ان الفضيلة والخير لا يمكن ان تنمو وتعم اذا لم تكن النظرة السائدة نظرة قائمة على التوحيد او وحدة الوجود اذا لم يكن ثمة عقيدة يكون فيها البشر عبادا لله.
ان السنين الخمسين الاخيرة كما يقول هكسلي تمثل تقهقرا كبيرا للتوحيد واتجاها نحو الوثنية لقد انصرف الناس عن عبادة إله واحد لعبادة آلهة موضعية كالطبقة الاجتماعية او الفرد والأمة ان عصرنا اذا قسناه بمقياس الرقي الوحيد وجدناه في تأخر واضح فإن تقدم الآليات سريع ولكنه دون تقدم الخير غير مفيد بل اقبح من ذلك انه يقدم ادوات ووسائل ناجحة ولكن للتأخير.
ويضرب هكسلي أمثلة على ذلك من فلاسفة أوروبا ويقول انهم بعيدون عن الحكماء المعروفين بسيرتهم الفاضلة فقد كان (نيتشه) الذي كتب عن الإنسان المتفوق (سوبرمان) عاجزاً عن ضبط شهوته الى تناول المربيات والمعجنات وكلما وصله من بيته شيء منها وهو معتكف في الجبال للعمل.. كلما وصله سلة فيها من اطايب الطعام يأخذ في التهامه يجعله بعد ذلك يستلقي على سريره.
وكان لكنت KANT مثل هذا النهم لأكل المربيات وذعر من المرض والموت حتى لا يجسر على زيارة اصدقائه اذا مرضوا او على الحديث عنهم اذا ماتوا وكان حين تقدمت به السن يدعي نوعا من العصمة.
وكان عند هيجل مثل هذا الغرور بالنفس وعند كثير من اقرانه.
ان امثال هؤلاء نابغون في ناحية.. أغبياء في نواح أخرى.. وهذا الغباء بالطبع ناتج عن الإرادة.. وان النظام التربوي ينمي الذكاء بالنسبة إلى ما هو خارج عن الإنسان لا بالنسبة الى داخله وأما (اندريه جيد) فبعد زيارة زارها عام ست وثلاثين للاتحاد السوفيتي وكان هو الرئيس الفخري للهيئات الشيوعية في فرنسا قال في كتابه (تعقيب على العودة): (أبرز الناس في السلم الاجتماعي من أعلاه إلى أسفله هم اكثرهم عبودية وأدناهم نفساً واشدهم انحناء وأخسهم. وأما الذين ترتفع جباههم فيحصدون او ينفون واحداً بعد الواحد).
وجملة القول في الحضارة الحديثة التي يتولى الغرب بمختلف شعوبه قيادتها انها تقوم على اساس ارتقاء بعض جوانب الحياة الإنسانية دون بعضها الآخر فقد أولت اللذائذ الحسية والمنافع المادية المرتبة الاولى وجعلت العقل خادماً لها ووسيلة لزيادتها.. فلقد رقت بالوسائل ولكنها لا ترتق بالغايات فلا يزال التنافس والصراع في مجالات السلم والحرب قانون هذه الحضارة.. لقد قوى الإنسان وتسلح وأصبح يملك قوة عظيمة ولكن نفسيته لم تتغير ولم ترتق ولم تستطع الحضارة الحديثة ان ترتفع بالإنسان وتنمي عواطفه الإنسانية ووعيه وشعوره الإنساني العام ولا التخفيف من اثرته وانانيته.. واذا كانت توصلت احيانا الى انظمة عادلة فانها لا تستطيع ان تخلق الجو النفسي والخلقي الذين يعين على تطبيقها بدافع من داخل الانسان لا من خارجه فحسب.
لقد ارتقى العقل حتى اغتر بنفسه وتمرد حتى خيل اليه ان الوجود الذي اكتشفه هو من صنعه وبدلا من ان يتواضع حين يرى عظمة الكون وسعة آفاق المجهول بالنسبة الى المعلوم تكبر وطغى فقطع صلته بخالقه وخالق الكون فتأله الإنسان واعتقد في ذاته فتردى الى اسفل السافلين.
ان حضارة اوروبا سائرة بتسارع نحو نوع جديد من الوثنية فهي مادية في اهدافها وغاياتها الفردية والجماعية.. فغاية الفرد اللذة والمتعة، وغاية الجماعة كثرة الانتاج وزيادة المال.. وإنما المذاهب في هذه الحضارة في نوع هذه اللذة وفي اقتسام الانتاج ولقد كان من اكبر ما منيت به اوروبا وحضارتها انحسار المسيحية وتقهقرها امام هذه الوثنية الجديدة.
لقد كانت تعاليم المسيحية الروحية ومبادئها الخلقية تخفف كثيراً مما عند الأوروبيين من ضراوة وشراسة وقد تركت اثرا واضحا في الافكار الانسانية والخلقية ولكنها تراجعت امام هذه الوثنية الجديدة من الديانات.
إن الرجل العادي في اوروبا كما يقول الاستاذ (محمد اسد) ديمقراطيا كان او فاشيا.. رأسماليا كان او اشتراكيا.. عاملا باليد او رجلا فكريا انما يعرف ديناً واحدا وهو عبادة الرقي المادي والاعتقاد بانه لا غاية في الحياة غير ان يجعلها الانسان اسهل. اما كنائس هذا الدين فهي: المصانع الضخمة ودور السينما المختبرات الكيماوية ودور الرقص ومراكز توليد الكهرباء، وأما كهنتها فهم رؤساء المصارف والمهندسون والممثلات وكواكب السينما وأقطاب التجارة والصناعة والطيارون والمبرزون الذين يضربون رقماً قياسيا ونتيجة هذا النهم للقوة والشره للذة ظهور طوائف متنافسة مدججة بالسلاح والاستعدادات الحربية مستعدة لإبادة بعضها بعضاً اذا تصادمت اهواؤها ومصالحها.
ان الحضارة الغربية لا تجحد الله سبحانه وتعالى في شدة وصراحة ولكن ليس في فكرها موقع لله.
ولقد صدق الكواكبي حين قال في كتابه (طبائع الاستبداد): الغربي مادي الحياة، قوي النفس، شديد المعاملة، حريص على الاستئثار، حريص على الانتقام كأنه لم يبق عندة شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له حضارة الإسلام ومسيحية الشرق.
أقول لقد ارتفعت في الغرب اصوات كثيرة للثورة على القيم والانتصار للمادية في شتى صورها.. وليس امثال رينان، ونيتشه، وفرويد، وماركس، من أدباء ومفكرين وفلاسفة الا دعاة لهذا الدين الجديد ولا يزال مريدوهم يكثرون وانصارهم يزيدون ومذاهبهم تنتشر.
بل اني اذهب الى ابعد من ذلك فاقول ان اوروبا في عصورها السالفة حين تقبلت المسيحية ودانت بها لم تحسن فهمها وتمثلها.. ولئن استفادت هي من المسيحية خلقا وروحاً فلقد اضرت هي بالمسيحية اذ شوهت الكثير من معالمها وعكست عليها وثنيتها القديمة الموروثة عن الرومان واليونان واوروبا حين قاتلتنا في الحروب الصليبية لم تقاتلنا بما عندها من تعاليم المسيح ولكن برواسب وثنيتها الموروثة، وطباعها الوحشية غير المصقولة، وليست جميع حروب الاستعمار ومآسيه وحروب التحرير كما يريد الشيوعيون ان يسموا حروبهم واهوالها وصراع الشعوب والطبقات الا ثمرة من ثمرات هذه الحضارة المادية.
ان في الغرب أزمة بل ازمات وقلقاً نفسيّاً واضطراباً في مجرى الحياة وضعفاً بل تدهوراً في الخلق والعواطف ومرضاً بل تردياً في النفس الانسانية واخفاقاً في محاولات الاصلاح الكبرى وحاجة شديدة الى اهداف جديدة وغايات انسانية مشتركة للحضارة وحاجة اشد الى وصل هذا الانسان العاتي الضال بالله مصدر الوجود ومن عنده تلتقي النهايات نهاية الكون ومصير الانسان.. وحينئذ ينقلب انطلاق العقل واكتشاف الكون واستثمار الطبيعة وتنظيم المجتمع واختراع الآلة ونمو الصناعة خيراً ونفعاً وبركة ويمناً وأمناً وسلاماً.
تلك هي الصورة التي نستطيع ان نلتقطها لعالمنا اليوم في مسيرته وللحضارة في صورتها الماثلة في الشعوب التي تسير اليوم في طليعة البشرية.. باسم "العولمة".
في ضوء هذه الصورة ينبغي ان نعمل ورسم المخطط لنهضتنا والاهداف لحضارتنا المستقبلية ونحدد نصيبنا في المساهمة.. ودورنا ورسالتنا في العالم ولا بد لنا من اجل ذلك معرفة عناصر اخرى وهي اولا معرفة انفسنا.. حاضرنا وماضينا،
وامكانياتنا وخصائصنا.. وكيف تفاعلنا قديماً مع المبادئ الانسانية وكيف صنعنا حضارتنا وحينئذ نكون قد استكملنا العناصر الضرورية لحل المعضلة والاجابة على المسألة الكبرى وعرفنا نصيبنا من المساهمة ونوع هذه المساهمة في مسيرة "العولمة".
ولقد اعتاد الباحثون في العالم العربي وصلته بالعالم البشري العام ان يخصوا بالذكر موقعه الجغرافي بين القارات والبحار والشعوب وهو أمر يجب أن يذكر، ولكنْ ثمة أمر آخر أهم منه يغفلونه على خطورته وهو موقعه الحضاري بين ألوان الحضارات قديما وحديثاً..
ان العالم العربي والاسلامي كما يقع موقعاً متوسطاً بين قارات ثلاث يصل بينها وبين بحار كبرى تمتد فيها سواحله فيشرف منها على سائر أجزاء الأرض يقع كذلك في مثل هذا الموقع من حضارات الشرق والغرب..
ففي الشرق الأقصى ديانات هي في اصلها روحية خالصة بعيدة عن المادة تذهب بالانسان مذهب الصوفية الفردية والخلقية السلبية والروحية الخيالية كالبرهمية والبوذية ولو انها في نهاية المطاف تردت إلى الوثنية.. وفي الغرب والشمال حضارات مادية هي اليونانية والرومانية قديماً والأوربية حديثاً وهي التي لا تعنى إلا بالمادة من قوة الجسم وملذاته وسعة الملك والسلطان وكثرة المال ووفرة الانتاج وكل ما يؤدي إلى ذلك من علم أو تربية وأخلاق..
إن الامة العربية والاسلامية كانت دوماً حين تنهض بالعبء وتتقدم للسير تمثل اللون الكامل والحضارة المتوازنة التي تجمع بين المادة والروح وتقيم الانسجام بينهما لطبع تأصل في نفسها خلال عصور نتيجة اجتماع أسباب وظروف في تاريخها سواء في ذلك عهدها الذي كانت فيه في شيء من العزلة عن العالم غير مضطلعة بعبء القيادة أعني العهد الذي سبق الاسلام وعهدها الذي تحملت فيه عبء القيادة وسارت أمام ركب الأمم بعد الاسلام.. إن طبيعتها الاصلية وفطرتها لم تتغير وإنما الذي تغير هو الأفق الذي تعمل فيه والساحة التي تجري فيها بين أفق محدود وأفق إنساني عام والمثل الأعلى الغامض الجزئي في الجاهلية والكامل الكلي بعد الاسلام.
واذا القينا نظرة سريعة على العرب ومن حولهم قبل الاسلام وجدنا أنهم يمتازون بفطرة انسانية سليمة لم يصبها ما أصاب الفرس من انحلال خلقي وانغماس في الملذات ولا ما وقع فيه اليونان من هذيان الفكر الفلسفي المنفصل عن الحياة وعن الاخلاق العملية ومن خيال اسطوري مغرق في الخرافة وأخلاق بعيدة عن مثالية الفلسفة ونظرياتها الكلامية وعن الانسانية بتمييزها العنصري بين الناس ولا أفسدها ما كان عند الرومان من روح استعمارية استثمارية.
إن عرب الجاهلية هم الذين كانوا بعد الاسلام خير أداة لتنفيذ الرسالة في العالم فمعدنهم واحد لم يتغير وإنما الذي تغير طريقة استثمار هذا المعدن..فالناس كما قال الرسول الكريم محمد صلوات الله عليه وسلم معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا.. إن العربي منذ عهود قديمة ملامس للطبيعة لا يحجبه عنها حاجز ولا تحول بينه وبينها الأساطير منها يتطلع إلى الله الخالق لا إلى الآلهة المزورة المخلوقة ولم تكن الوثنية إلا فترة طارئة في حياته دخيلة عليه من الشعوب المجاورة.. غير متغلغلة في نفسه وكثيراً ما هزئ بها وسخر منها.
لقد كان العربي واقعيّاً في تفكيره يعيش في ضوء الشمس وحرها وعلى أرض الصحراء وفوق رمالها ومع حيوانها ونباتها ولذلك كان أدبه كحياته بعيداً عن الأساطير التي حشا بها الادب اليوناني ولم يكن في تفكيره هذا ابتدائياً فقد عرف الحكم المجرد والكليات العامة ولغته ملأى بالمفردات الدالة على الكليات والمجردات كما هي ملأى بالألفاظ الدالة على المحسوسات والجزئيات..
وكان العربي منذ تلك العهود البعيدة مثالي الاتجاه يفضل المعنى على المادة والشرف على المال وذخيرة الحمد على ذخيرة الثروة والعز والكرامة على النعيم والرخاء.. ولئن كانت المثل الخلقية والروحية في الجاهلية لم تأخذ شكلها الواضح الكامل الواسع الأفق الذي صاغه الله بعد الاسلام.. فإنها كانت في حياة العرب قبل الاسلام تتمثل في اتجاه واضح نحو هذا النوع من المثالية الخلقية وفي نظرة ظاهرة الاستعداد لتقبلها سليمة من التردي والتفسخ والانحلال والاسفاف المخزي الذيوقعت به أمم أخرى مغرفة في الحضارة المادية ومختلفة كذلك عن تلك الروحية الخيالية السلبية الانعزالية التي كانت تتجلى في أمم الشرق. إن أقوال العرب وأعمالهم - وكان القول عندهم يطابق العمل- تدل دلالة واضحة على هذا الاتجاه.. وقصص العرب التي فاضت بها كتب التاريخ وهي قصص حياة واقعية لا قصص خيالية واسطورية كقصص اليونان تجسد تلك الخلال الكريمة المتأصلة وتدل على ما كان يعتلج في نفوسهم من دوافع معنوية وبواعث خلقية ولو أخطأوا الهدف أحياناً أو ضلوا الطريق للوصول إلى تحقيق ما يريدون من خير.
نواصل الأسبوع القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.