الهجرة عن الوطن الأم فكرة تراود الكثير من البشر، سواء رغبة منهم أو اضطرارا لتركه بحثا عن مستوى معيشة أفضل أو أكثر أمنا، أو للحصول على درجة علمية مميزة، أو بسبب ظروف العمل التي تحتم العيش في ذلك البلد الآخر. وتضع الدول شروطا للإقامة فيها أو التجنس طبقا لمنظومتها الفكرية والسياسية وارتكازا على طبيعة بنيتها الاقتصادية والمجتمعية. ولاشك أن غالبية الدول ترحب بهجرة الأشخاص المميزين إليها استشفافا منها بكونهم إضافة قيمة للمجتمع وباعتبارهم موردا إنسانيا ثريا تحرص على استمراره وعدم نضوبه، وتمنح الدول إقامة مؤقتة أو طويلة لمن أثبتوا قدرة على التعايش في مجتمعاتها دونما إخلال بقيمها الأخلاقية أو السلوكية، شريطة أن يكون المقيم فيها قد دخل أراضيها بصورة شرعية، وتعايش داخل المجتمع باعتباره مواطنا صالحا يعرف واجباته قبل حقوقه. وسأقصر حديثي هنا على تجربتي المواطنة في الولاياتالمتحدة وبريطانيا، باعتبارهما يمثلان حلما يراود الكثير من مواطني الدول النامية. إن كلتا الدولتين لا تمنحان الشخص الجنسية إلا بعد إقامته فيهما لفترة زمنية محددة، غير أن أهم ما في الأمر هو إمكانية حصول الراغبين في الهجرة إليها على الإقامة الدائمة وذلك وفق شروط معينة كالعمل أو الزواج من مواطن / مواطنة من نفس البلد وغيرها من شروط أخرى معروفة للكثيرين. والإقامة الدائمة هي بطاقة تمكن حاملها من الدخول أو الخروج من أراضي الدولة التي يريد الاستقرار فيها بحرية، كما تمكنه من الحصول على غالبية المميزات التي يتمتع بها مواطنو هذه الدولة من خدمات تعليمية وصحية وسكنية وغيرها، باستثناء الجنسية. وتعد الإقامة الدائمة الخطوة الأولى للحصول على الجنسية، وعندها يخضع ذلك المقيم لتجربة المواطنة طوال فترة إقامته، حيث يتم تقييمه من خلال نظام «النقاط» سواء كانت سلبية أم إيجابية، فإن كانت إيجابية فإنما يدل هذا على قدرته على التعايش مع قيم تلك الدولة كما يثبت مدى استفادة الدولة من وجوده ومدى إسهامه في تحقيقها لأهدافها العليا، وإن كانت سلبية فمعنى ذلك أنه اصطدم بقيم المجتمع الذي يود العيش فيه ويصعب كثيرا حصوله على الجنسية. هذه التجارب وغيرها تعطينا بعض المؤشرات لتقييم نظام التجنس بالجنسية السعودية المطبق حاليا، وهي الجنسية التي يتطلع الكثيرون للحصول عليها لأسباب عديدة، قد يكون أهمها تمتعها بالاستقرار السياسي أو الازدهار الاقتصادي أو لكونها أرض الحرمين الشريفين. وقد تم تعديل نظام التجنس وتنقيحه عدة مرات، وكرأي شخصي أعتقد أنه من الممكن تفعيل نظام تجربة المواطنة بشكل أكثر إيجابية بالنسبة للأشخاص الذين ولدوا وعاشوا بالمملكة، وأولئك الذين تزوجوا بسعوديات من خلال إخضاعهم لتجربة المواطنة بمنحهم إقامة دائمة، وفي حال إثبات قدرتهم على التعايش في المجتمع وعدم اصطدامهم بقوانينه وأعرافه وتقاليده يتم منحهم الجنسية السعودية؛ فلا توجد دولة في العالم لا ترغب في اجتذاب العلماء والمتميزين لأراضيها وهي على ثقة من قدرتهم في مواصلة بناء وتطوير مجتمعها. القضية في المملكة لها شقان، أولهما يتعلق باستفادة الدولة من بعض المقيمين الراغبين في التجنس بالجنسية السعودية وخاصة المتميزين منهم، أما الشق الثاني فهو شق إنساني يتعلق بالكثير منهم ممن عاش عقودا طويلة داخلها ربما أكثر مما عاش في بلده الأصلي، وممن أصبحت المملكة بلدهم الأول بعد أن خدموها بحب بإخلاص حقيقيين، وأثبتوا نجاحا فعليا بقدرتهم على التعايش في المجتمع، أي أنهم بمقاييس الدول الأخرى خضعوا لتجربة المواطنة كاملة ونجحوا فيها وبرهنوا على أنهم قد أضحوا لبنة متلاحمة في نسيج المجتمع السعودي .. لاشك أننا نتفهم جميعا تحفظات الدولة ومخاوفها من التوسع في إعطاء الإقامة الدائمة والتجنس لأسباب أمنية، وهي مخاوف منطقية ومشروعة، غير أنه من الأفضل ألا ننظر للشق السلبي من كل قضية فحسب، يجب أن ننظر للشق الإيجابي أيضا بحيث نتوصل لتصور متوازن بشأن هذه القضية، والشق الإيجابي هو إلى أي مدى تستطيع الدولة الاستفادة من قدرات من يرغبون في الحصول على جنسيتها، وإلى أي مدى سيتم تطوير المجتمع بضخ دماء جديدة في عروقه تدين بالولاء والانتماء له بعد أن أصبحت جزءا منه، ونسيجا أصيلا من لحمته وسداه. twitter.com/mufti_dr